الأرض واحدة .. ويطلبها اثنان

زاهر بن حارث المحروقي

تتحمّل الأنظمة العربية مسؤولية غياب القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي من دائرة الضوء؛ بعد أن كانت هذه الأنظمة تستمد شرعيتها من المتاجرة بالقضية؛ حيث نشأنا ونحن نسمع عبر المنابر ووسائل الإعلام أنّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، فانشغلت الشعوب بقضايا داخلية دون أن تحقق أيَّ نجاحات على الصعيد الداخلي، إذ كانت القضية الفلسطينية هي الشماعة التي تعلق عليها الأنظمة العربية فشلها في تحقيق التنمية في الداخل، حتى تحركت المياه الراكدة بما عرف بالربيع العربي، ممّا زاد الطين بلة في انشغال الدول الأساسية التي كانت تتحمل العبء الأكبر في مواجهة إسرائيل، مع ظهور حركات مشبوهة، بدءاً من طريقة إنشائها وتمويلها وأهدافها وحتى في اختيار اسمها، ممّا جعل جلال أمين يقول "يخيّل لي أحياناً أنّ استخدام اسم داعش للإشارة إلى حركة تهدف إلى إقامة الخلافة، يشبه ترك المجرم سهواً أثراً من آثاره في مسرح الجريمة وينسى أن يمحوه، فيؤدي ذلك إلى اكتشاف أمره"، وهذا ما ذهب إليه حسن نصر الله في كلمة ألقاها يوم الأربعاء 28/7/2015، خلال رعايته مؤتمر "متحدون من أجل فلسطين - إسرائيل إلى زوال"، الذي نظمه "اتحاد علماء المقاومة"، عندما قال إنّ ما حدث من تطورات في العالم العربي في السنوات الأخيرة، أضرّ كثيراً بمشروع المقاومة، ممّا أعطى المشروع الصهيوني الفرصة ليحقق الإنجازات.

إنّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين الأولى، فهذه حقيقة حتى وإن كان هناك مخططات لإبعادها عن أذهان الناس -كما هو حاصل الآن-، فلا يجب علينا أن نحكم على الأمر من لحظة تاريخية عابرة فقدت فيها الأمة البوصلة بفعل عوامل كثيرة، وما الردود الكثيرة التي وصلتني تعليقاً على مقالي الأسبوع الماضي تحت عنوان "إسرائيل.. إلى أين؟" إلا دليلا على ارتباط الناس بهذه القضية؛ فقد كانت الردود كثيرة ومتنوعة كلها صبت حول إسرائيل وإن اختلفت المشارب، وربما تكون أبرز التساؤلات التي طرحت هي: هل الصراع العربي الإسرائيلي أبدي وأزلي بحيث لا يمكن أن نجد له حلا آخر غير الحرب؟ وهل هو صراع على الأرض أم التاريخ أم الدين؟ وهل هو صراع وجود أو حدود؟ وفي الحقيقة هي أسئلة هامة، ويبدو أنها تلخص القصة كلها، فهو صراع أبدي، فإسرائيل لن ترضى إلا بتحقيق حلمها "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"، وهو الشعار الذي استطاعت إسرائيل أن تحوله الآن إلى واقع على الأرض دون استخدام القوات المسلحة ودون رفع علمها في العواصم العربية؛ وهو صراع على الأرض والتاريخ والدين، وهذا كله جعل من الصراع صراعاً أبدياً لن ينتهي بمجرد التوقيع على أوراق في كامب ديفيد باسم اتفاقيات السلام؛ فالقضية ببساطة هي أنّ أناساً أتوا من بقاع الأرض المختلفة مستغلين الدين، واحتلوا أرضاً بطرد أهلها منها، واحتلوا أحد أهم المقدسات الإسلامية، وكذلك مقدسات المسيحيين، ممّا جعله صراعاً دينياً وجودياً وجغرافياً، لا يوجد له حل إلا برحيل طرف على حساب الطرف الآخر، وقد لخص ذلك ديفيد بن غوريون بقوله "ليس هناك حل، فالأرض واحدة وطالب الأرض اثنان، ولا بد أن تكون لواحد منهما فقط، ولا بد أن يكون هذا الواحد هو الشعب الإسرائيلي وبكل الوسائل بما فيها القوة والسياسة وحتى الخديعة، لكي يجعل الطرف الآخر يرضى بالتنازل عن مطلبه"؛ وقد كان هذا التوجيه من بن غوريون، هو الذي مشت عليه السياسة الإسرائيلية حتى يومنا هذا، ويُستدل على ذلك بما قاله مناحيم بيجن وهو أحد رؤساء الوزراء المهمين والذي وقع اتفاقية كامب ديفيد مع السادات، عندما قال "كان العرب يتصورون أن لديهم القدرة على مواجهة إسرائيل، والآن اقتنعوا أنّهم لا يستطيعون ذلك؛ ثم تصورا إمكانية الاستعانة بالاتحاد السوفييتي، ولكن حالة العلاقات بينهما أزاحت هذه الإمكانية؛ والآن يتصورون أنهم يستطيعون استعمال أمريكا في الضغط على إسرائيل، وينبغي أن تفشل هذه المحاولة؛ لقد جعلنا العرب ييأسون من أنفسهم.. ثم جعلناهم ييأسون من الاتحاد السوفييتي.. والآن لا بد أن نجعلهم ييأسون من الضغط علينا بواسطة أمريكا، وعندما يتم ذلك فسوف يدركون أنه ليست أمامهم وسيلة غير التوجه إلى إسرائيل مباشرة وقبول ما تفرضه عليهم"، وهذا ما حصل فعلاً، أما قضية الإدعاءات الصهيونية حول أحقيتهم التاريخية في فلسطين، فمردود عليها، لأنّ فلسطين لم تكن إلا ضحية الحلم الصهيوني بإقامة وطن لليهود، فقد كانت أوغندا والأرجنتين مرشحتين لإقامة تلك الدولة فيهما، وعندها كانت الادعاءات التاريخية قد تغيرت.

ولكن كيف حققت إسرائيل النجاح؟ لقد اخترقت إسرائيل الوطن العربي من الداخل، واستغلت موضوع الإثنيات والعرقيات لصالحها؛ وبتخطيط طويل المدى بدأ من أيام بن غوريون، الذي رأى أنّ المنطقة العربية لا تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة، وإنما هي خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني، وكان من رأيه استغلال ذلك لصالح إسرائيل، مما يؤدي إلى تشتيت مفهوم القومية العربية ومقاومة فكرة الوحدة العربية.

يذكر فهمي هويدي في مقال بعنوان "مشروع إسرائيل المنسي لتفتيت العالم العربي" في جريدة الشروق المصرية يوم الثلاثاء 28 يوليو 2015، أن إسرائيل تبنت استراتيجية تشجيع مناطق الأقليات في المنطقة، وطرحت بين حين وآخر فكرة إقامة دويلات درزية أو مارونية على حدودها، لتكون بمثابة مناطق أمن تكسب إسرائيل الاطمئنان وتشكل حاجزاً مادياً ومعنوياً يفصل بينها وبين الدول العربية، وهو ما من شأنه أن يشجع الأقليات الأخرى على أن تسير على ذلك الدرب، ويحفز الأكراد في العراق والأفريكان في جنوب السودان وموريتانيا على الاستقلال (والوضع الآن في العراق وسوريا وما حصل في السودان خير دليل)؛ ولعل كتابات أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل الأسبق التي صدرت تحت عنوان "صوت إسرائيل"، تعد أفضل تعبير عن الفكرة، حيث اعترض على الافتراض القائل إنّ الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وإنّ على إسرائيل أن تتكامل مع تلك الوحدة، ويرى أن الوحدة لم تتم في بعض الفترات إلا بالقوة.

إن قضية استغلال الأقليات الإثنية والعرقية، هي التي نبه إليها نصر الله في خطابه الأسبوع الماضي عندما حذر من أن "نصل إلى وضع ترى فيه الأقليات إسرائيل وكأنها الحامي والمدافع عنها"؛ وكما رددتُ كثيراً فإنّه يجب علينا أن نبحث عن الخلل في أنفسنا قبل أن نحمله الآخرين، فخطط إسرائيل المعلنة منذ 60 عاماً، لم تنجح إلا لأن الخلل موجود داخل الكيان العربي الذي يعيش دون هدف، وللأسف - كما يرى هويدي -، فإن الدور الإسرائيلي في الخرائط الجديدة التي ترسم للمنطقة لم يأخذ حقه من الانتباه والدراسة، لأنّ هناك تركيزا شديدا على طموحات الإيرانيين ومخططات داعش.

لقد علق أحد الإخوة على مقالي الماضي "إسرائيل إلى أين؟"، بأنّه لفت نظره أنّ مصدر الحديث عن زوال إسرائيل يأتي من جانبها، ولا شيء من جانبنا ولو من باب رفع المعنويات وبث الأمل في النصر، قلت له من جانبنا تسمع ذلك من السيد نصر الله فقط، فقال "صحيح فهو في كلِّ مرة يتحدث يزيل منّا جزءًا من اليأس ويحقنا ببعض الأمل"، وقد تصادف ذلك مع حديث نصر الله في اليوم نفسه عندما أكد أنّ "القضية الفلسطينية هي قضية حق لا لبس فيها، فلو بحثنا في كلِّ الأرض فلن نجد قضية لها الشرعية والأحقية كقضية فلسطين"، وقد علق الآخرون أن فكرة زوال إسرائيل هي وهْمٌ فقط؛ وأقول لا بأس من أصحاب هذا الرأي، فهم يحكمون على "لحظة تاريخية" بسيطة جداً من عمر البشرية، تكاد لا تعد عبر التاريخ، ولكني سأبقى على إيماني، فكما قال نصر الله، فـ "إسرائيل الغدة السرطانية إلى زوال، والقدسُ ستعود إلى أهلها؛ والمسألة مسألة وقت".

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك