افتراضات التاريخ للوجود العربي ونشأة الأفلاج في عُمان

 

 

هاجر السعدي

يقول تركي الحمد: "عندما نتحدَّث عن التاريخ، فإنَّ الذهنَ لا ينصرف إلى كيان موضوعي محدَّد ومعين، بل إنَّ المسألة مُتعلقة بمفهوم ذاتي يختلف باختلاف النظرة المنطلقة من اختلاف الفلسفات والأيديولوجيات والعقائد". بَيْد أنَّ التعددية الذهنية الإنسانية -سواء في النظر إلى التاريخ أو الحضارة...أو غيرها- تجعل من الإنسان صانعا للتاريخ والحضارة، لا مجرد كائن استاتيكي مستكين لغرائزه، على الرغم من أنَّ هذه التعددية تُفرز صراعات أو تنافسا بين الحقائق المطلقة للأيديولوجيات والعقائد. والجدير بالذكر أنَّ مثل هذه الصراعات تعكسُ تجاوزَ الإنسان فكرة أنه استاتيكي ومستكين لغرائزه.

نجدُ أنَّ الباحث (ج.س. ويلكنسون) في مقالته المعنونة بـ"سلوت ونشوء الأفلاج في عمان"، يُغربل افتراضات التاريخ للوجود العربي ونشأة الأفلاج في عمان عبر قرية سلوت؛ وهي أهم المواقع العمانية وأكثرها حضورا في السياق التاريخي العربي؛ من منطلق أنها تمثل مسرح قصة مالك بن فهم، وإلى جانب آخر موقع بناء الأفلاج التي بناها سليمان بن داود؛ وذلك على حدِّ الروايات التاريخية، ويمكنني القول بأن الباحث في مقالته قام بعرض الأقصوصات العمانية والروايات المركبة محاولا -وهذا آخر ما يفهمه القارئ بعد قراءة الأسطر الأخيرة في المقال- استخراج العنصر الحقيقي من مجموعة الأساطير والروايات المركبة، لكن دون الاستناد إلى تفنيد الشواهد الأثرية وإبراز علل دحض بعض الروايات، إلى جانب عرض الأساطير دون محاولة منه بالتعاطي معها بالحجة والنقاش. واعتمد الباحث ذلك من خلال استفتاحه بهجرة الأزد ثم مأرب، ثم هجرة مالك بن فهم، وأخيرا بناء الأفلاج في عمان. ويُعدُّ سد مأرب معجزة تاريخ شبه الجزيرة العربية؛ حيث وردتْ الكثير من الأقاصيص والروايات حوله والتي مازالت قابلة للنقاش. ومن هذه الروايات أنَّ انفجارَ السد الذي أفضى بهجرة الأزد تعرض في الحقيقة لمرات عديدة من الخراب في الخمسمائة سنة الأولى بعد الميلاد، وبرزت رواية أخرى تعلل تفرُّق الأزد إثر اجتياح السيول للسد وانتقلت القبائل السبئية -نتيجة الصعوبات المتعلقة بالسد؛ من حيث مواد البناء وعوامل التعرية ومفاجآت السيول- إلى عمان بقيادة مالك بن فهم إلى قرية سلوت التي كانت يسكنها الأخمينيون، وحدث صراع بين مالك بن فهم وبين الأخمينيين نتيجة رفض الأخمينيين إقامة عرب مالك بن فهم، وانتصر مالك في الحرب، وأتى تسمية عمان بـ"الأزد" -أطلقه الأزديون عندما نزلوا عمان، وهو اسم أحد أودية مأرب في اليمن- وذلك بعدما كانت تعرف بالاسم الفارسي "مجان ومأرب"، والجدل بين المؤرخين وعلماء الآثار هنا قائم على نقطة هجرة القبائل العربية إلى عمان: هل قبل أو بعد الإسلام؟ أي معرفة القصة التاريخية للوجود العربي والصراع مع الإمبراطورية الساسانية؛ بَيْد أنَّ المتتبع لتاريخ الهجرات العربية شمالا وجنوبا يجد أنَّ أغلب الروايات العربية الكلاسيكية قد أشارت إلى أنَّ دخول القبائل العربية إلى عمان قد تم قبل الإسلام بعدة مئات من السنين، رغم وجود روايات تشير إلى تزامن هجرة العرب إلى عمان مع حكم دارا بن دارا بن بهمان. والجدير بالذكر أنَّ أغلب الروايات التاريخية المتعلقة بسد مأرب وهجرة الأزد مع اختلاف حيثياتها ترتكز على ثيمة رئيسية أو عنصر حقيقي متشابه وهي خلاصة الرواية التي ذكرتها أعلاه. ومن هنا، يمكننا القول بأنه ورغم التعددية الذهنية الإنسانية ومع اختلاف الأيديولوجيات والعقائد في غربلة وإيضاح التاريخ فيما يخص حقيقة سد مأرب وهجرة الأزد، فإنَّ العنصر الحقيقي -مركز الأسطورة- موجود مع امتزاجه ببعض القشور التي تشكل أفكارَ وأفهامَ الأجيال ومعتقداتها. ومن هنا، يُمكننا القول بأن الأسطورة قصة حقيقية عند بداية ظهورها، ثم أُضيف إليها بعض التفاصيل فبدتْ خيالية في نظر الأجيال التالية. وهنا، أقتبسُ التفاتة ويلكنسون في بداية مقالته؛ حين ذكر أنَّ على الباحث أن يقرن ذهنه بين مصطلح "الأسطورة" والعبارة التي تقول "الأسطورة التي ينبغي أن تُقرأ". ونجد هنا إشارة ضمنية تفيد بأنه ليست كل أسطورة تُهضم منطقيًّا؛ ففهم التاريخ ينبغي أن يكون وفق سُنن الكون وقوانينه، لا وفق وعي أسطوري يفاقم المشكلات ويُلقي الماضي في غياهب الوعي المنحرف. والذي لا يُمكننا إنكاره في التاريخ أيضًا أنَّ مالك بن فهم -كشخصية تاريخية- تستحضرُ الأذهان العربية أهميته في تفسير استقرار العرب في شبه الجزيرة العربية، وتحدرات الأنساب. وهجرة الأزد بقيادة مالك بن فهم مهمة في الرؤية البعيدة للعرب الأولين. وفي جانب آخر، يُعرِّج الباحث إلى ذكر قصة تدمير الفرس للأفلاج التي أنشأها سليمان بن داود -الشخصية القرآنية التوراتية- والتي بلغ عددها 10 آلاف؛ حيث يفترض التاريخ أنَّ الأخمينيين أعادوا سيطرتهم على عمان وارتبط ذلك بمسألة الأفلاج، وتوجد قصة بارزة مفادها أنَّ نظام القنوات في إيران قديم جدًّا؛ حيث إنَّ الذي يستخدمونه اليوم لا يدرون من أين تبدأ القناة، وما هي مصادر المياه المتدفقة فيها؛ لذلك ليس غريبا أن تكون بعض القنوات في عمان يزيد عمرها على الألفي عام، والقنوات القديمة التي جرى الاعتماد عليها عبر قرون متطاولة سماها العمانيون داودية أي أنها تعود للنبي سليمان، وتنامتْ الأساطير والروايات، وتعدَّدت الأذهان المفسرة التي تحاول فك شفرة الكيفية التي قام بها سليمان بناء الأفلاج في سلوت، ومعظم الروائيين أخرجوا من عهدتهم الروايات بـ"الله أعلم".

بينما المؤلفون العمانيون يُشيرون إلى سليمان باعتباره منشئَ الأفلاج، بَيْد أنَّ الارتباط الذي أقاموه معقد بعض الشيء. وأغلب الروايات التاريخية التي عزت نشأة الأفلاج إلى سليمان بن داود مصدرها واحد "التوراة" بما فيها الدلائل والإشارات التي استند إليها الباحث ويلكنسون في مسألة نشأة الأفلاج وربطها بسليمان بن داود، ويمكنني أن أعزو ذلك إلى نتيجة ضعف الإشارات الأثرية، وأن النظر إلى تقنية وهندسة الأفلاج أمر يفوق قدرات الإنسان الأولى نتيجة الجهود الكثيفة التي تحتاجها، إضافة إلى وجود عناصر في القصة العمانية موجودة في القرآن الكريم وهي عناصر حسبت من ضمن المتشابه في الكتاب؛ فقد كانت لسليمان علاقة بعالم الجن، ويفهم لغة الطيور والحيوانات...وما إلى غير ذلك. ومن ضمن القصص الشعبية المتنامية امتدادا للقصة الأصلية، وتعد مهمة للأقصوصة العمانية: الرحلة اليومية بين الشام وأفغانستان على سجادة حريرية، والقصة المشتركة بين التوراة والقصص الجنوبي الغربي، إضافة إلى أنَّ قصة سليمان باليمن تركتْ آثارها. فالعدة الأسطورية أمام منشئ الأفلاج في قرية سلوت تجابه استفهاما في مسألة الربط بين سليمان ونشأة الأفلاج.

وكلُّ ما تم ذكره أعلاه يُبرهن سببَ حظوة سلوت بأهمية في السياق التاريخي العربي. وأخيرا يمكننا القول بأن تراجم التاريخ، والسير، قد حفظت لنا الكثير من الأخبار المتشعبة والآثار المتناقضة، والتي تحتاج بحقٍّ إلى كثير من التدقيق ومزيد من الضبط.

تعليق عبر الفيس بوك