التمركز حول الذات عند العرب المسلمين

أمل السعيدي

ظلَّتْ بعضُ الخصائص -كالجبريَّة- لصيقة بالمسلمين إلى عَهْد قريب، ساهم في إخراجها الرَّحالة الأوربيون وبعض رجال الإصلاح، بل واعتبروها سبباً من أسباب انحطاط المسلمين؛ لذا فإنَّ الذات الثقافية للمسلمين كانتْ حاضرة على الدوام أمام هذه القراءات التي تسعى لتوثيقها بغية فهمها. والجبريَّة تعني في جوهرها التسليم؛ فالعبدُ ليس فاعلاً حقيقياً، وهذا الفعل مضافٌ إلى الرَّب. وإن كانت هذه هي المكوِّن الأساسي حسب ما قدم عن النسق الثقافي للمسلمين قديماً، فإنها اليوم شهدتْ تغيراً راديكاليًّا؛ فأصبح العنف والإرهاب قرينيْ الإسلام وصنيعيْ المسلمين. فكيف حدث هذا التحول الكبير؟ وما علاقته بنخب المؤسسات في البلاد العربية-الإسلامية؟ هكذا تقدِّم احميدة النيفر مقالها "من اللامبالاة إلى الترويع"، والذي تناقش فيه الأسبابَ التي أفضتْ إلى هذا النموذج المتهم بالإرهاب ورفض التسامح.

وقبل سياقة الأسباب وتشخيص وضع النخب، وجب أن نعرف التسامح؛ حتى نسرد الإمكانات الدلالية التي ستصبح المعيار الذي نحاكم وفقاً له فعالية أي تجربة عندما يتعلَّق الأمر بتسامحها من عدمه؛ فالتسامح -حسب تعريف منظمة اليونسكو- "لا يعني اللامبالاة، كما لا يدل على المسايرة والمجاملة، إنما هو تقدير لما ينطوي عليه التعدد الثقافي في العالم من ثراء. إنه الوقوف على ما يحمله تنوع طرق التعبير البشرية من دلالات لفرادة الذات الإنسانية...وغيرها". وفي مقابل هذا التعريف، نجد أنَّ بعضَ مفكري العرب -مثل فرح أنطون- نقله بما يعني التنازل أو التساهل واللامبالاة؛ مما يعطي صفة استعلائية لمن اتخذ هذا التسامح نهجاً له. فكلُّ هذا لم ينتج عن إيمان حقيقي بضرورة حضور الآخر بما هو عليه؛ لأن فرادته تحقِّق انتصاراً ما، وإنما يصدر عن ذات تضع نفسها جهة الحقيقة. وتشير أحميدة النيفر إلى أنَّ تشوُّه هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى كثيرة في العالم العربي-الإسلامي يعودُ إلى كونها مجتمعات غير ذات صلة بالفكر والإبداع، ولو جئنا لأطروحات الكثير من الفلاسفة والمفكرين لوجدنا أن شرطَ التسامح لا يتحقق إلا في مجتمعات منفتحة فكريًّا، وهنالك سببٌ آخر تورده الكاتبة وهو أنَّ هذا المفهوم -وغيره من المفاهيم- يظل محل تساؤل ومراجعة دائمين. ولو اقتربنا قليلاً من تجربة الغرب لوجدنا أنَّ ذلك صحيح، وأًوْرد مثالاً على ذلك أنَّ تومس هوبز الفيلسوف كان يرى أن وجود دين ومذهب واحد أفضل خيار للسلطة، في حين خالفه جون لوك -من بعده- فقدَّم قراءة مغايرة كان منها أن أعلن تسامحه مع الجميع عدا الكاثوليك والملحدين، في حين أن بيير بابل المفكر الفرنسي الكبير دعا للتسامح مع الجميع بمن فيهم الملاحدة. وإنما هذا هو شاهد واحد على استمرارية ومشروعية البحث حول أي قيمة ومفهوم لديهم.

وترى أحميدة النيفر أنَّ ثمَّة بنية ثقافية تساهم في رفض التسامح إن تجاوز حدود المراعاة والمدارة وهذه البنية بحاجة للدراسة والتحليل، ولعلَّ أحد أهم هذه الأسباب هو وصول النخب إلى صيغ إطلاقية عن المعرفة، لا يعود فيها التساؤل مهمًّا، وقد يبدو مثيراً للعجب أنَّ النصَّ القرآنيَّ جاء خلافاً لذلك، مشيراً للصيرورة التي تخضع لها المعرفة، تمخَّضت عن ذلك حالة من "التمركز حول الذات". ويقول عبدالسلام بن العالي أستاذ تاريخ فلسفة بجامعة محمد الخامس في الرباط: "قبل أن يكون التسامح حركة توجِّهنا نحو الآخر؛ فهو حركة تُبعدنا عن ذواتنا، نتحوَّل بينها وبين أشكال الإعجاب بالذات من سباحة في اليقينيات وتشبث بأفكار وتعلق بنماذج بعينها". ومن المهم أنْ يكون ثمَّة هامش للتشكك، يجعل هذه المعرفة تُدار بأدوات حيوية وقابلة للفهم والانفتاح. هذا ما حدث عند الغرب فيما يتعلق بالتسامح؛ فكارل بوبر يقول: "علينا أن نكون على استعداد دائم لاكتشاف أننا قد أخطأنا؛ فتمكننا من مخالفة أنفسنا واستعدادنا لكي نتقبل نفسنا الأخرى، سيمكننا من قبول اختلاف الآخرين" وليس هنالك ما هو أقوى دلالة على "التمركز حول الذات" من الصراع العقيم القائم بين الخطاب التراثي والخطاب التحديثي، واللذين يصران على التصادم مع بعضهما البعض؛ فالأول يدعو لمقاطعة الحاضر والعودة للماضي والثقافة المحلية، ولا يستند إلى شروط الوعي العالمي الجديد، ولا يؤمن بأنَّ قيم تكريم الإنسان كونية. والآخر ينكر إمكانية تفعيل الخصائص الذاتية لهذه الثقافة، ويتجاهل معاني التكريم الإنساني في القرآن. وكمثال على هذا الصراع الذي تتحدث عنه الكاتبة يُمكننا أن نلقي نظرة على الصراع السلفي-الليبرالي في المنطقة. هنالك رغبة مسبقة لتبرئة التراث من ناحية، وأخرى لتجريمه من ناحية أخرى؛ مما يُؤدِّي -حسب الكاتبة- إلى عدم تقدير أهمية التاريخ ويتفق معها جورج طرابيشي، ويُؤكد أنَّ هذا الصراع لا يفضي إلا لضياع الحقيقة التاريخية بما هي كذلك وستظل ضائعة ما دامت لا تُحترم في موضوعيتها بعيداً عن شاغل التثمين أو التبخيس. ويضيف بأنَّ هذا الصراع الأيديولوجي في ظاهره في غالب الأحيان ما هو إلا شاشة للإسقاطات النفسية التي يقوم لها الجرح النرجسي مقام المحرك. وعندما نقول "النرجسية" فنحن لفكرتنا عن التواصل مع هذه الذات التي ندور حولها.

... لا شكَّ أنَّ التقدُّم الذي حصل لدى الغرب لم ينتج عن حراك فكري اجتماعي فقط، فدينامية التحولات التاريخية ساهمت في ذلك إلى حد كبير؛ فأوروبا -بأعراقها المختلفة، وتنوعها اللغوي والثقافي، وبكل المفكرين الذين ساهموا في صناعة التنوير- شهدت حروباً ضارية على مدار قرن أو قرنين، وعانتْ من التعصُّب المذهبي؛ مما أسْهَم في تطوير فكرة التسامح بوصفها خلاصاً كما يعبر هاشم صالح. "فالفكر مرتبط بالواقع وحاجياته الملحة وإلا فلا معنى له".

وتذكر الكاتبة -في نهاية مقالها- عن تلك الدراسات والكتب التأثيمية التي تصف المسلمين بالإرهاب وتقصيهم، ولا تسعى لدراسة تاريخ الحضارة الإسلامية بموضوعية، وتدعو الإعلام للاشتغال على هذه المسألة بدلاً من الخطوات المحتشمة التي يقوم بها في هذا. وعلينا أيضاً أنْ نراجع موضوع صراع الحضارات (الشرق والغرب)، ولزوم تبين أنها علاقة تفاعلية في أساسها. وأخيراً أستطيع القول بأننا بحاجة لإفساح المجال لهذه الذات لتحقيق نوع من المرواحة، يمكنها من التردد، والشك، والاستقلال والتحرر، والذي سينتج عنه بلا شك نوع من التساهل مع نفسها من ثم خلق فرصة للانفتاح على الآخر وتقديره.

Amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك