الطهطاوي: حاجة عصرهم وعصرنا


مبارك الحمداني

يكشفُ الباحثُ أحمد محمد سالم في بحثه "حول ملامح الخطاب الإصلاحي عند رفاعة الطهطاوي"، ملامحَ الحقبة الثقافية التي شكَّلت تبلور فكر الطهطاوي كأحد رواد مسيرة التنوير في العالم العربي. مُبتدئاً مقالته بالاستفهام عن حالة التناقض التي كان يعيشها العالم العربي إبان حكم الدولة العثمانية التي حكمتْ العالم العربي منذ القرن السادس عشر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين حين سقطت الخلافة العثمانية في مارس 1924م.

ويتعجَّب سالم من الأوضاع السياسية والعسكرية السائدة في ظلِّ مقارنتها بالوضع الفكري والثقافي للدولة العثمانية. وفي هذا الصدد، يسردُ قائلا: "...وقد تمتعت هذه الدولة بقوة عسكرية كبرى استطاعت بها أن تسيطر على أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وأن تُخْضِعَ لسيطرتها أجزاءً من أوروبا، ولكن هذه الدولة القوية على المستوى العسكري عاشت عالة في حياتها الثقافية والفكرية على المنتج الفكري والثقافي للحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة...".

وفي تقديري، فإنَّ تخلف الحالة الثقافية والوضع الفكري الذي كان قائماً في الدولة العثمانية حينها شكَّل سبباً رئيسيًّا من أسباب سقوطها؛ وذلك تؤكده الكثير من الدراسات والأبحاث المعمَّقة التي حللت هذا السقوط وبحثت في ميكانزماته وأسببابه، وهذه الدلالات إنما كانت تستند إلى طبيعة إدارة رواق العلم والمعرفة والنشاط الثقافي في الدولة؛ حيث كان من بين أسباب هذه الحالة "تقلُّد المناصب العلمية لأشخاص غير مؤهلين علميًا لشغلها، منذ سلطنة "سليم الثاني"، "ولعل في إفادة السلطان "محمد الثالث" عبرة، إذ يقول متحدثًا عن الوضع العلمي في الدولة: "لم أجد في الأرض رجلًا صادقَ القول قيمًا بالحق". وإن في إيضاح مراره إشارة مفيدة، وإن لم يثبت في مصادر موثوقة قوله: "التفت إلى شيخ الإسلام "بستان زاده" أفندي (بلطف للتعيين)، فبادر بتعيين أخيه الجاهل قاضيًا لعسكر "روم إيلي"، وأعطى قضاء سلانيك لشاب جاهل...". كما أنه ليس عبثًا ما كان يقال في حينها عن العلماء بأنهم "علماء المهد"...". أضف على ذلك كله اهتراء القدرة العلمية وتدني نوعية العلوم ومراكز الدرس والتعليم. إضافة إلى أنَّ في فترة لاحقة أصبحت المسائل العلمية الهينة هي مدار النقاش بين الطلاب والدارسين، فأصاب النخر صنف العلمية العثمانية، ففسد نظام التعليم والقضاء، زد على ذلك الخمول واقتباس الصناعات والمكائن من أوروبا.

وفي هذا الصدد، يذهبُ سالم إلى مرحلة لاحقة لكشفها وتحليل الجو الثقافي العام الذي كانت تنطبع به؛ بحثاً عن المنابت الأولى لتبلور فكر الطهطاوي. فينطلق إلى فترة حكم محمد علي الذي سعى لتكوين إمبراطورية قوية تكون مصر مركزها، مُنطلقاً من موجة تحديث أوجه الحياة المختلفة في مصر في كافة المجالات فأسس الصناعات والزراعات الحديثة التي تخدم بناء الجيش، وكان من بين الخطوات التحديثية التي أسَّس لها محمد علي في سعيه لبناء إمبراطوريته إيفاد البعثات العلمية إلى الخارج. وهنا؛ تكمُن نقطة المركز في هذه الدراسة؛ حيث كان رفاعة الطهطاوي أحد الموفدين مع إحدى البعثات العلمية لكي يقوم على شؤونها الدينية "ولكنه حين ذهب إلى باريس رأى مدى التقدم الذي يعيشه الأوربيون في كافة المجالات. ومن هنا، فقد أخذ على عاتقه البحث في الأسباب التي أسهمت في تقدم أوروبا -سواء كانت هذه الأسباب هي العلم والتقدم العلمي، أو سيادة أشكال الحكم التي تقوم على الحرية والعدل- والتي بدورها تؤدي إلى تهيئة الأجواء للتقدم والرقي...".

وفي تحليله المعمَّق، يذهب سالم إلى الاعتداد بمجموعة من المرتكزات الأساسية تمكِّن الدارس لفكر الطهطاوي من القراءة الواعية لجهوده الفكرية؛ ومن هذه المرتكزات: عدم إغفال سيادة القوالب اللغوية التقليدية في مؤلفاته؛ حيث يعتبر سالم أنَّ الطهطاوي حين ينقل إلينا مصطلحات الفكر السياسي الغربي يوظف في ذلك لغة السياسة الشرعية فهو يرادف بين الشعب/الرعية، وبين القانون/الشريعة.. معتبراً أنَّ سيادة هذه اللغة في خطاب الطهطاوي الفكري إلى (تجميد الأفكار الليبرالية الحديثة) التي كان يسعى إلى نقلها داخل قوالب لغوية تقليدية؛ فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر، بل اللغة هي الفكر؛ لهذا فالطهطاوي لم يسع إلى تجديد اللغة التقليدية السائدة في خطابه الفكري، بل تعامل مع المكتسب الليبرالي بلغة الفقيه، وعِالم الدين، وقد نلتمس له العذر لأنه كان يمثل أحد الرواد الذين شكلوا الجسر الذي عرفنا أوروبا من خلاله. وفي تقديرنا أنَّ هذه من الأسس الذكية التي انطلق منها الطهطاوي في معالجاته الفكرية. حيث إنَّ الكثير من مصطلحات الفكر السياسي الغربي لا تقبل لذات المصطلح وليس لكينونته وطبيعة فهمه ومدى اتساقه مع النسق الحضاري والتاريخي والمجتمعي السائد. ولو وقفنا عليها وحلَّلنا الكثيرَ من المعطيات التي تستند إليها، لوجدنا حتمًا أنَّ بعضها يتناغم مع طبيعة الإنسان والمكان وطبيعة المعطى والهدف الاجتماعي الذي يسعى الفاعلون لتحقيقه في مجتمعاتهم.

ثمَّ يذكر سالم في المرتكز الآخر أنَّ سيادة اللغة التقليدية في خطاب الطهطاوي الفكري ترتب عليه أَنْ طبع الطهطاوي فكره (بالطابع المعياري-الأخلاقي والديني).. معتبراً أنَّ الطهطاوي حين ينظر إلى الأفكار، والنظم المعرفية الغربية فإنه يحكم عليها من خلال الطابع المعياري، فحين يتحدث عن أمريكا قبل اكتشافها من قبل الأوروبيين، يقول: "وأما أمريكا فهي بلاد الكفر" (1)، وحين يتحدَّث عن العِلم، يقول: "ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية" (2)، وحين يتحدَّث عن موقفهم من القضاء والقدر، يقول: "ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر"(3)، فالطهطاوي يتعامل مع الغرب من خلال علومه الدينية. هذا الطابع الديني والمعياري يرجعه سالم إلى سيطرة العقيدة الأشعرية على فكره، وهو النمط السائد في الأزهر ومصر في تلك الفترة وإلى الآن.

ثم يخلص سالم في المرتكز الأخير أنه قد ترتب على سيادة الروح التقليدية في فكر الطهطاوي، ورغبته في نقل الأفكار الحديثة إلى وطنه أن عَمَد إلى التقريب بين الوافد والموروث، والتقليدي والحديث، معتمداً في ذلك على (منهجية القياس والمماثلة بين الوافد والموروث)، وقد وظَّف في ذلك أدوات لها أصول تراثية مثل الدعوة إلى الاجتهاد، والقول بأنَّ باب الاجتهاد مفتوح، وأنَّ على الفقيه أنْ يقدم اجتهادات تتوافق مع روح العصر.

وبرَغْم التحليلات التي أوردها سالم في قراءة الخطاب الإصلاحي عند الطهطاوي -في ضوء المرتكزات التي اعتد بها- إلا أنَّنا يُمكن أن نقدِّم قراءة مركزية أخرى نستشرف من خلالها فكر الطهطاوي. وبالتحديد في بنده الإصلاحي؛ حيث تنطلقُ هذه القراءة ليس فقط من باب محاكمة المفاهيم الأساسية والمقاربات اللغوية -كما فعل سالم في مقالته- وإنما من خلال قراءة قيمية نستشف فيها أهم القيم التي استند إليها الطهطاوي في خطابه الإصلاحي. ولعلَّ أبرز هذه القيم في تقديرنا هي: "الحرية"؛ حيث يعتبر الطهطاوي الحرية شرطاً أساسيًّا من شروط الإصلاح، ولطالما كان نتاجه يستند إلى الحديث عنها -ولو بشكل ضمني- فهو يشير في أحد المواضع إلى القول بأن: "من شروط التمدن "حرية الفكر" التي تتمثل بترخيص جميع الملوك للعلماء وأصحاب المعارف في تدوين الكتب الشرعية والحكمية والأدبية والسياسية، ثم التوسع في حرية ذلك بنشره مطبعاً (مطبوعاً) وتمثيلاً... ثم يضيف: "...بشرط عدم قيام ما يوجب الاختلال في الحكومة بسلوك سبيل الوسط بغير تفريط ولا شطط".

ويُشير سامي محمد نصَّار في كتابه الموسوم عن رفاعة رافع الطهطاوي -الذي اعتبره شيخ التنوير العربي- إلى أنَّ الطهطاوي يُحدد أنواع الحريات التي يجب أن يتمتع بها أفراد المجتمع في خمسة أقسام على النحو الآتي:

- الحرية الطبيعية، وهي التي خلقت مع الإنسان وانطبع عليها.

- الحرية السلوكية، التي هي حسن السلوك ومكارم الأخلاق.

- الحرية الدينية، وهي حرية العقيدة والرأي والمذهب بشرط ألا تخرج عن أصل الدين... ومثل ذلك حرية المذاهب السياسية وآراء أرباب الإدارات الملكية في إجراء أصولهم وقوانينهم وأحكامهم على مقتضى شرائع بلادهم.

- الحرية المدنية؛ وهي حقوق العباد والأهالي الموجودين في مدينة، بعضهم على بعض؛ فكأنَّ الهيئة الاجتماعية المؤلفة من أهالي المملكة تضامنتْ وتواطأت على أداء حقوق بعضهم لبعض.

- الحرية السياسية، أي الدولية (يقصد الشؤون المتعلقة بشؤون الدولة) وهي تأمين الدولة لكل أحد من أهاليها على أملاكها الشرعية المرعية، وإجراء حريته الطبيعية دون أن تتعدى عليه في شيء منها.

ومن القيم الأساسية التي يرتكز عليها خطاب الطهطاوي الإصلاحي والتنويري قيمتي العدل والمساواة. حيث يعتبر الطهطاوي أنَّ العدل هو أحد الأسس المركزية في قيام الدولة الحديثة؛ فالعدل في نظر رفاعة "صفة تبعث الإنسان على الاستقامة، في أقواله وأفعاله، وأن ينتصف لنفسه ولغيره حتى جعله بعض الحكماء فضيلة قاعدة لجميع الفضائل، وأنه أساس الجمعية التأنّسية (لعلّه يقصد المجتمع الإنساني) والعمران والتمدن، فهو أصل عمارة الممالك التي لا يتم حسن تدبيرها إلا به".

أمَّا المساواة أو كما يسويها الطهطاوي "التسوية" «بين أهالي الجمعية» (المجتمع)، فهو يعتبر أنها صفة طبيعية في الإنسان تجعله في جميع الحقوق البلدية كإخوانه، وهي جامعة للحرية المدنية والحرية الملكية؛ وذلك لأنَّ جميع الناس مشتركون في ذواتهم وصفاتهم... وكل منهم محتاج إلى المعاش؛ وبهذا كانوا جميعاً في مادة الحياة الدنيا على حد سواء، ولهم حق واحد في استعمال المواد التي تصون حياتهم.

تعليق عبر الفيس بوك