دوَّامة الإصلاح والمصالحة في ظل الدولة والتاريخ

 


مريم العدوي

 

فِي ظلِّ الأحداث الدامية التي تشهدها الدول العربية، والتي يذهب البعض إلى تسميتها بـ"الربيع العربي" -بينما يصفها الآخرون بـ"الخريف"- يكبُر التساؤل عن الدولة وماهيتها بالضبط؟ حيثُ إنَّ الإصلاح والقضاء على الفساد وما شابهه من شؤون تُعنى بها هذه الفترة، يتطلب أولاً الوقوف على مفهوم الدولة.

"أسئلة الإصلاح والمصالحة.. قضايا الدولة والتاريخ"، هو عُنوان مقال للكاتب محمد نور الدين أفاية، استرسل من خلاله في الحديث عن الدولة ومفهومها والسبيل إلى الإصلاح في ظل الكثير من الأسئلة التي تُلح بها الفترة الراهنة.

 

1- فوضى الفساد والسعي نحو الإصلاح:

ويرى الكاتب أنَّ للتوترات الأخيرة في الدول العربية وجهيْن؛ الأول: داخلي؛ نتيجة للاستبداد. أما الثاني: خارجي؛ نتيجة لضغوطات سياسات الدول الكبرى. أما عن مستقبل ونتائج كل هذه الأحداث، فهو لا يزال مُبهما وغامضا. حيثُ ظهرت موجة الثورات العربية، والجدير بالذكر أنَّ هناك فارقا شاسعا بين المصلح والثوري؛ ولطالما كانت هناك مشاحنات بين الاتجاه الثوري والإصلاحي. بينما تاريخيا نجد أن الثورات ليست سوى مشاريع إصلاحية.

وبالنظر إلى المجال العربي، فإنَّنا نجد أن مفهوم الإصلاح متجذِّر وفق مفاهيم مختلفة؛ فالرسول هو"المصلح الأعظم". حيثُ ينبثق الإصلاح عن الاعتقاد بوجود خلل أصاب مجتمعاتنا نتيجة تغربها عن الإسلام. إنَّ الإصلاح منذ القديم يدعو إلى خلق أيديولوجية قائمة على التجديد والتطوير والعقلنة التي تحافظ على الهوية الثقافية، وفي الآن نفسه تتوافق مع متطلبات الحياة الجديدة.

لقد قامتْ النزعة الإصلاحية في الدول العربية نتيجة هشاشة الداخل من جهة وضغوطات الخارج؛ حيثُ تعمل أمريكا على مشاريع دولية تنادي بالإصلاح في الدول العربية التي تُعاني من التكلس في المؤسسات السياسية والثقافية.

 

2- تناقضات السياسة:

يُشكل الإصلاح البيئة الخصبة التي تُنعش الخطاب السياسي؛ حيثُ يعمل السياسي من منطلق الدعوة الإصلاحية على مد يد العون ووضع حد للفوضى؛ وذلك من خلال خلق صراع لمحاصرة النظام أو اختلاق صراع يهدف إلى تجنب نزاع أكثر دموية.

ومن جانب آخر، فإنَّ علم السياسة لا يزال يفتقر إلى إيجاد قانون أساسي يوجهه ويضبط قواعده نظراً؛ لأنه يعبر عن تناقضات بين النزاع والنظام، على الرغم من محاولاته الأخذ بأساليب الاقتصاد ومناهج علم الاجتماع؛ وذلك لما يميز كينونة السياسة؛ فهي لا تعبر عن الخير المطلق مثلا.

ماذا لو أنَّ السياسة نجحتْ في حلِّ إشكالية التناقضات بسلام؛ فهل يمكن إصلاح المجتمع والدولة والقيم من الناحية الواقعية؟ وماذا عن مهمة السياسة التي قد تتعدَّى قدراتها، حيثُ ينشغل المجتمع السياسي بصراعات السلطة ومراقبة تطورات التوازن؟

 

3- فشل السياسة ومفهوم الدولة:

يصعب تعريف الدولة لعدة أسباب؛ منها: أن تعريفها سيختلف في كل مرة تبعا للزاوية التي يُنظر منها؛ لذا ينبغي مراعاة المناهج الأربعة عند تعريفها؛ فكلٌّ من: المنهج الاجتماعي والتاريخي والفلسفي والقانوني مُهم من أجل تعريف شامل للدولة.

وحسب عبدالله العروي -صاحب كتاب "مفهوم الدولة"، الذي تطرَّق فيه إلى مفهوم الدولة بشكل واسع ذاكراً ما وجده في الجانب الإسلامي وحتى الأوربي- ذكر عدة أمور مهمة؛ نذكر منها: 1- ليس هناك نموذج واحد للدولة رغم محاولات قادة العولمة.

وعلى اعتبار أنَّ الدولة عبارة عن "مجموعة أجهزة" -حسب لوي ألتوسير- فإنَّ في الدولة ما يكفل ردع العنف مثلاً؛ متمثلاً في: الشرطة والجيش، وفيها كذلك ما يكفل التوجيه كنظام التعليم؛ فالدولة -إضافة إلى هدفها- قادرة على التطور وزيادة قوتها من خلال إقامة مؤسسات عصرية تكثف العقلانية الاجتماعية.

لقد عاش العالم قرنين من الزمان يُطوقه نتاج فلسفة التنوير والثورة الفرنسية التي سعت نحو الديمقراطية والدولة، ولكن كما يبدو فإن كل ما في جعبة "التفاؤل التاريخي" -كما يدعوه البعض- بات على وشك الانهيار.

وأمام الفشل السياسي الذريع الذي حدث مع سطوة الاقتصاد وما تبعه من ضغوطات تتمثل في توافر ما تسميه المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي. أصبح لدى الدولة وظائف جديدة يتعين عليها القيام بها وفقا لما تتصوره حركة العولمة بكافة اتجاهاتها، ضاربة عرض الحائط ما لهذه التوجهات من انعكاسات على الحقلين السياسي والاجتماعي. وعلى الرغم من أنَّ قادة العولمة أصبحوا على يقين من أهمية حفاظ الدولة على جزء من صلاحياتها التقليدية؛ إلا أن هذا الأمر لا يزال يطرح الكثير من التساؤلات؛ مثل تلك المتعلقة بالديمقراطية والانتخابات.

... لقد أدَّى الاقتصاد المعولم إلى نشوء تشكيلة جديدة لسياسات الدول وتطلعاتها؛ حيثُ الغاية الأسمى الاستقرار في ظل "دولة معقولة". وفي إطار كل ذلك تجد الدول العربية غير النفطية خاصة نفسها محصورة في إطار من التحديات والضغوطات المفروضة عليها، فتبدو نصائح قادة العولمة عبثية؛ حيثُ البنية الأساسية لهذه الدول لا تزال في بداية المشوار؛ وبالتالي فإنَّ أحلام الديمقراطية والعدالة...وغيرها من ثوابت قمة الهرم تبدو بعيدة وصعبة.

 

4- عندما تفقد الدولة قدرتها:

لقد بدأتْ الصورة المتضخمة بعد الاستقلال التي اتصفت بها الدول العربية في أواسط الثمانينات بالتلاشي مع ظهور شعارات جديدة؛ مثل: "ضغط التوازنات المالية"؛ حيثُ لم يعد في وسع الدولة أن تقدم الكثير، وباتت ترفض ثيمة المواطن الذي يعول على الدولة كل شيء. ومن هنا، لجأت العديد من الدول العربية إلى الضرائب. ورغم تبجح هذه الدول بالديمقراطية، إلا أنها سعت منذ البداية إلى رفض كل صوت غير صوتها. ومن هنا؛ نشأتْ مبادرات للدفع بركب المجتمع نحو المطالبة بحقه بعيداً عن أجهزة الدولة، حيثُ رغبت فئة من الناشطين في المجال السياسي والثقافي بالتعبير عن أنفسهم.

وتبدو اليوم كل تلك التساؤلات والمشكلات مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقاً، ومتصلة بشكل مباشر بالدولة حتى بدت الدولة وكأنها مشكلة معقدة وعميقة.

ولحلِّ هذه المشكلة لا ينبغي الاكتفاء بحل قضايا الهيكلة والجهاز الإداري لدولة، بل يتطلب الأمر إعادة تحديد وظائف الدولة. والجدير بالذكر أنَّ مثل هذه النظريات والحلول لا يمكن تطبيقها على كل الدول؛ فلكل دولة خصوصيتها خاصة التاريخية منها.

وفي خِضَمِّ كلِّ هذه الأحداث -وبين ما يسعى إليه "الفاعلون الاقتصاديون الجدد"، وما يهدف إليه "المنظِّرون السياسيون"- يبقى هنالك مخرج عندما يتعلق الأمر بـ"المصالح الحيوية"، ولكن يتوجَّب الحذر ومراعاة قراءة الواقع؛ حيثُ الفتنة والإصلاح قد يحمل كل منهما في طياته صفات الآخر!

 

5- الديمقراطية واللَبس:

لطالما حدث التباس بين الكلمات بمعناها الشائع وبين ما تحويه من مقاصد في الحقيقة، وهذا الأمر تعرضت له "الديمقراطية" مثلها مثل الكثير من الألفاظ. وهذا ما يطرح العديد من التساؤلات التي تشغل الديمقراطيين الآن حول مستقبل الديمقراطية.

... إنَّ واقعنا العربي اليوم في مأزق كبير؛ حيثُ أنَّ مفهوم الديمقراطية شائك. وفي كثير من الأحيان لا يؤدي الخطاب السياسي دوره بشكل فاعل؛ مما أدَّى إلى فقد ثقة المجتمع بالديمقراطية وعزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات مثلاً، وكأن لسان حالهم يعبر عن درجة السأم واليأس من الواقع السياسي؛ فمن يجيب عن دوامة الأسئلة التي باتت تدجج كل حديث حول الإصلاح والدولة؟

تعليق عبر الفيس بوك