دوامة لا جدوى من الدَّوران فيها

 

مُحمَّد رضا اللواتي

مُنذ فترة ليست ببعيدة، ووزارة القوى العاملة (المحترمة) قد عوَّدتنا على إصدار قرار يُلزم المؤسسات والشركات بتقديم رواتب موظفيها العمانيين، بدَفْعها إليهم قبل أن يحين أوان الاستحقاق، هذا في الأوقات التي تقع فيها الإجازات الطويلة في منتصف أو على كتف الشهر.

القرارُ يُناقشه البعض من جهة مَدَى قانونيته، وما إذا كانت الوزارة تملك سلطة أمر المؤسسات الخاصة بالقيام بهذا الأمر، وبغضِّ النظر عن ظروفها المالية -من منطلق أنَّ "الناس مسلطون على أموالهم"- إلا أنَّنا لا نودُّ في هذه السطور التطرُّق إلى هذه الزاوية من الموضوع.

القرار.. مُنطلقاته إنسانية للغاية، ودوافعه نبيلة تماما؛ يأتي حرصًا على تقديم يد العون لأولئك الذين لن يتمكنوا -بما يُعانون من قلة ذات اليد، وقد صرفوا نصف أو أكثر من رواتبهم- أن يجدوا ما يصرفوه في الإجازة، التي تتطَّلب -وفق العادات والتقاليد المتبعة فيها- صرفا استثنائيا.

ومع ذلك، فهو لا يخلو من جوانب سلبية، لا شك أنَّ الوزارة مُلتفتة إليها، ولكن -ومن منطلق "جلَّ من لا يسهو"- نودُّ لفت مزيد من الانتباه إلى سلبياته، أو لنقل: التذكير مجددا بها؛ بناء على المقولة المأثورة: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".

لنتأمل مآل الفرحة التي تنتاب أولئك الذين يكونون في مسيس الحاجة إلى مبالغ إضافية لتغطية نفقات الإجازات الطويلة نسبيًّا كإجازات العيدين؛ لما وجدوا فيه معونة بالغة لهم، إلا أنهم -وحالما تنتهي الإجازة- يجدون أنفسهم في حاجة ماسَّة كذلك إلى مَدَد مالي لكي يستطيعوا به بلوغ رأس ما تبقى من الشهر والشهر الذي يليه بالكامل، غير أنَّ ذلك المدد وبالطبع لا يكون متوفرا بالعادة، إلا إذا تمَّ الاقتراض من المصرف، أو طلب الإعفاء من خصم الأقساط المترتبة على القروض بمقابل تراكم نسبة الفائدة.

فأي الأحوال باتت أشد عُسرا؟ تلك التي تكون قبل الإجازة أو التي أعقبتها؟

لن نحتاج إلى ضَرْب أخماس في أسداس لكي نستنتج أنَّ الثانية أصعب حالا وأضيق خناقا من الأولى.

ومعنى ذلك: أنَّ ذلك الإلزام من قبل الوزارة الموقرة للمؤسسات وشركات القطاع الخاص بتقديم رواتب الموظفين العمانيين لأجل مساعدتهم ماليا على أعباء الإجازات، في الواقع قد جعلهم في وضع أشد عُسرا من الذي حاول القرار مد يد العون لهم فيه؛ فقد جعلهم يواجهون به ما تبقى من الشهر والشهر الذي يليه بلا معونة مالية.

لقد استحالتْ المعونة إلى ضيق خانق.

ولعلَّه -والحال كذلك- كان الأجدر أن يترك للناس أن يتخذوا قرارهم بأنفسهم إن كانوا في مسيس الحاجة إلى تقديم رواتبهم أم لا؛ فيتَّقدموا بطلب الحصول عليها أو على شيء منها للدوائر المختصة في مؤسساتهم، إن وجدوا أنهم في حاجة إلى ذلك.

الجهة الأخرى للموضوع تكمُن في عدم مراعاة القرار للأوضاع المالية لمؤسسات القطاع الخاص؛ فهو يُلزمها بتقديم دفع مبالغ قد تكون كبيرة جدًّا في حين أن أوانها لم يأت بعد.

... إنَّ هذا قد يدفع العديد منها إلى الاقتراض من المصارف لسد العجز الموجود لديها، أو رفع سقف الاقتراض مع ما في ذلك من تأثير على التدفق النقدي بشكل سلبي جدًّا، وتراكم نسب الفائدة، في حين لا يُلزم قرار الوزارة (الموقرة) من تعاقدتْ هذه المؤسسات معهم باستلام مستحقاتها المالية منهم بعد 30 أو 60 أو 90 يوما. القرار لا يُلزم أولئك بتقديم التزاماتهم لدائنيهم قبيل الوقت المحدد.

كما أنَّ القرار لم يقم -حقيقة الأمر- بمساعدة الناس عبر تقديم رواتبهم قهرا، بل ألجأهم إلى الاحتياج لفترة لم يعتادوا عليها، كذلك لم يكن مُنصفا في حقِّ مُؤسَّسات القطاع الخاص؛ إذ ألحق بالعديد منها ضررا بجعلها تلجأ إلى الاستدانة بنحو من الأنحاء وتحمُّل مرارة ذلك.

وبذلك، فقد خَرَج الجميع من القرار متضرِّرين بشكل من الأشكال. فهل تبقيت له بعد ذلك جدوى؟

إننا لم ننظر بَعْد إلى الموضوع من زاويتين أخريين؛ هما:

- تأصيل القرار لعادات البذخ الزائد على حدود الميزانية الاعتيادية؛ عبر السماح القهري لتدفق نقدي مُفاجئ في غير وقته؛ ليجد المرءَ أنَّ بَيْن يديه ما يكفي لتغطية مصاريف عادات غذائية واستهلاكية تزيد على الحجم المفروض... هذا أولاً.

- ثانيا: تشجيع القرار على الإنفاق خارج البلد؛ بتمكين الناس من السفر في غير الموسم وفي غير الضرورة.

وبطبيعة الحال؛ فالناس مُسلَّطون على أموالهم، وعلى إرادتهم، لكننا نتحدَّث عن قرار "يُعين" -ولا نقول "يُجبر"- على تأصُّل سلوك لا جدوى منه، كان بإمكان الناس -في ظل غيابه- أن يتصرفوا بشكل طبيعي وعفوي، وفق الميزانيات المتاحة والظروف السانحة.

نرى أنْ نترك الأمورتمضي بشكلها الروتيني بلا قرارات تعمل على تغيير مساراتها؛ بدفعها نحو مساقات نكتشف -لاحقا، وبشكل دائم- أنها تضطرنا آخر النهار إلى مزيد من التضحيات ما كان لها داعٍ أساسًا، ولسنا في حال تُتيح لنا بذل تلك التضحيات، بغير اللجوء إلى دوائر الحسابات في مؤسساتنا بطلبات تقديم الرواتب مجددا، وبغير لجوء المؤسسات إلى المصارف لرفع سقف الاقتراض بعد تأثر التدفق النقدي بذلك الشكل السلبي.

لا تستحقُّ أيَّة إجازة الدوران في مثل هذه الدوامة.. فلماذا نعمل على بقائنا فيها؟

Mohammed@alroya.net

تعليق عبر الفيس بوك