إلى السيابي الذي لم أره..!

هلال الزَّيدي *

على وقع انغماس أشعة الشمس المتوهجة في صباح أربعائي، تخترق السيارة شوارع وأبنية، وتعتلي جسورا تربط ضفاف تلك الطرق من أجل تخفيف الكثافة المرورية التي تزداد في ذروتها عند السابعة صباحا.

عقاربُ الساعة ومُؤشراتها تشير إلى أنَّ الساعة السادسة صباحاً.. يضع كوب الشاي في متناول يده ويتسيَّد المقود مردداً: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا في سفرنا هذا، اللهم أطوِ عُنَّا بعدَه..."؛ فهو تعوَّد عندما يعتلي سيارته قراءة دعاء السفر مهما طالت المسافة أو قصرت.. السيارة تتجه في صباح جديد لمقر العمل لبدء مشاريع جديدة أو لإكمال ما تبقَّى من فتات الأمس.. في نفسه تدور أفكار كثيرة وتطلعات، ويتذكر شخوص وأحداث؛ فتقحم العبارات نفسها في شريط الحياة؛ لتتحطم عند خروجها من اللسان إلى هواء لا أحد به إلا "ذاته".. فيمخر طريق السلطان قابوس مع عدد من السيارات التي هي في عجلة من أمرها؛ لأنه يراها في لمح البصر أو قبل أن يرتد إليه طرفه.

هدوء جميل.. يبدِّده صَوْت الطائرة التي تتلقى الإشارة بالهبوط في مطار مسقط الدولي -الصَّرح المعماري الذي شارف على الانتهاء؛ ليكون محطة أمن وأمان، في بلد يفتح ذراعية لكافة الأديان من مختلف البقاع والبلدان- نعم إنها صروح النهضة وألق الحياة العصرية التي أرسى دعائمها جلالة السلطان.

هُناك من الجهاز السمعي تأتيه أنغام فيروزية تنساب من حنجرة الجمال مع صوت العود وانتشاء آلة القانون، وانغماس الجوقة في ترديد تلك الكلمات.. صَوْت مُمتد لا يقطعه إلا "خلود العلوية مذيعة هلا.إف.إم" لفترة قصيرة عندما تنثرُ ورودًا من كلمات صباحية وحكم نحتاج إليها.. فها هي تتحدَّث عن التضحية من أجل الأصدقاء؛ لتجره العبارة إلى مواقف كثيرة مرتبطة بالوطن ليقول: "من منا ضحَّى أو يضحِّي من أجل الوطن..؟

التضحيات للوطن كثيرة؛ فهناك من ضحَّى بوقته وقوته وفكره.. وهناك من ضحَّى بماله وشبابه.. وهناك من ضحَّى بكلِّ شيء عنده من هامته حتى أخمص قدميه.. ولا أعتقد أنَّنا نُوازي أو نقترب منه في تضحياته؛ لأنه بنى الوطن وأسَّس دولة عصرية.

هنا.. يَرَى مسلسلًا من الأحداث والمشروعات التي عانقت سماء الواقع، وقدم أبناء عمان المخلصون فيها عصارة تضحياتهم؛ فهي كثيرة، لكن هناك حادثة لم يستطع مفارقتها أو تجاهلها حتى أخذت مجراها في تسلسل الأفكار لديه... وهي تلك المرتبطة بأحدهم عندما قال له: "لماذا تستخدم سيارتك الخاصة في إنهاء أعمال العمل، والقانون سمح لك باستخدام سيارة المؤسسة ؟" فيرد عليه قائلا: ألا يمكن أن نضحي من أجل الوطن ولو بالمتيسِّر.. وذلك تخفيفا لبعض التكاليف؟ يرد عليه قائلا: ما دُمت في العمل فأنا مطالب باستخدام سيارة الوزارة لأثبت للآخرين بأنني خارج في مهمة عمل.. فلو استخدمت سيارتي سيعتقد الكثيرون أنني خارج في نزهة أو عمل خاص، مُستغربا من قوله وتفسيراته ورادًّا عليه: وما لي أنا بالآخرين واعتقاداتهم، فأنا أعمل من أجل تقديس العمل، وليس الشخوص.. ومهما كانت النظرة فكل إناء بما فيه ينضح، وليس من خرج بسيارته فهو خارج ليتنزه.. وعلى الآخرين "هؤلاء" أن يحسنوا الظن ولا يتجسسوا على من يضحي ويصدروا أحكاما غير صائبة.. لديَّ قناعة تامة بأنني أعمل وفق الأنظمة لأُرْضي الله -سبحانه وتعالى- ثم ضميري من أجل هذا الوطن.. فسأضحي من أجل الوطن؛ حتى ولو قيل عكس ذلك.

صَوْت فيروز يعلو مجدَّدا "ضاق خلقي يا صبي من هالجو العصبي.. ضاق خلقي ضاق خلقي يا صبي الما بتفهم من نظرة ولا بحتى حكي.. ما نعني افعل أو إئتي أيا حركي.. بتحكي وبتصير ما بتسمع وإذا جاوبتك مرة بتفقع.. مطوقني بحبك ومسيج من حولي الدنيا وعاجنبي..".

ومع ضيق فيروز من حركات ذلك الصبي، تأتي الأفكار مُنسابة كتدفق فلج السمدي أو فلج دارس أو شلالات وادي تنوف أو شلالات دربات في ذروة عطائها؛ فتمرُّ مع ذلك التدفق أسماء ضحَّت في منظومة الإعلام والصحافة.. أسماء لا تزال أقلامها تهطل بغزارة الفكر.. أقلام أبحرت في شتى ميادين الحياة، فقدمت خلاصة فكرية وعمقا ثقافيا مكتنزا بالمصطلحات اللغوية.. ومنهم الكاتب الصحفي والأديب الشيخ حمود بن سالم السيابي، الذي ساهم ويساهم في مسيرة الإعلام العماني عبر منابر حرية الكلمة.

الأديب المعطاء السيابي لا تنفك قريحته عن العطاء؛ فتنساب حبًّا للوطن تارة، وتارة تهيم في خنادق السياسة ووصف الساسة وصناع القرار.. وتارة تغوص في التاريخ والأدب لينقل تفاصيل الزمان والمكان.. نعم إنه العطاء الذي يتدفق كسيل عرم في أرض جدباء فتثمر يانعة معشوشبة يافعة.

قال لي أحدهم "عملت مع السيابي عندما كان في صحيفة "عمان" منذ عشرين عاماً؛ فتعلمت على يديه أبجديات الصحافة، وثوران الفكر وحب الوطن.. وبلغت من الكبر عتيا ولا يزال يضع بصماته في كل مكان".. إنه شخص ضحَّى ويضحِّي في سماء الكتابة والإبداع.. فبعد مرحلة الصحافة والتمرغ بأحبار المطابع التي تسكنه حتى الآن ساهم في منظومة مجلس الدولة بأفكاره ورؤاه وتطلعاته.. هكذا الفكر عندما يستند إلى قامة وجسد مفتون بحب العطاء.

لا تثبُت الأحرف لديه في مكانها، وإنما تتحوَّل إلى كلمات وعبارات بمجرد أن تخرج من تحت صرير القلم أو عندما تهوي يديه على لوحة المفاتيح "الكيبورد" فتشكل ملحمة من ملاحم الوصف والتقصي والتسجيل والتدوين؛ فهي بحد ذاتها ثروة فكرية وأدبية تحتاج إلى من يستنطقها ويضعها جداريات تتزين بها الأمكنة.

عندما يضعنا الشيخ حمود السيابي في تلك الصور من خلال رحلة علاجه في هامبورج.. أقول عندما يضعنا بين أزقة وجسور ومرافئ هامبورج؛ فحقا هناك ثمَّة شخص يبُث لنا رسائل شوق لا تكون منسية وإنما رسائل مهنية فنية.. وعندما يجلس على ضفاف (أليستر) في صباح ماطر يراقب هيمان العشق بين جسدين فهو يوثق مرحلة زمنية تتناسب مع يوم النهضة التي حطم أصفادا وأقفالا كانت تكتم على قلب الوطن.. وعندما تقوده أقدامه المتوشحة بالتضحيات إلى الحواجز الفولاذية لبحيرات وأنهار أوربا يتذكر كحل الحبيبة "عمان"، وهنا تجانس يستعصي علينا فهمه من الوهلة الأولى إلا إذا أمعنا النظر وتفحصنا الأحرف في رسمها ومعناها وما ترمي إليه.

لم يكتف السيابي في ربط القارئ والمتابع بإحساسه بالمكان وتوثيقه بالزمان في رحلته العلاجية؛ لذا تجد حبلَ الفكرة لديه متصلا ليكتب بغزارة التجربة وعمق الامتداد الذي جاء منه فوالده ورثه علم لا يحصى وأمده بتراث فكري وأدبي وفقهي لا يبلى.. فتلك الجذور العتيقة الصلبة أنتجت أزهارا متفتحة على العالم وفق بصيرة نافذة في منطق القول ومواكبة لمستجدات الحياة العصرية.

السيابي يحملُ معولا يبني به تاريخا ويؤسِّس به مسارا للعمل الإبداعي (الأدب والصحافة) فهاتان المنظومتان المتحدتان شديدتا المراس إلا على السيابي عندما يهم بها وتهم به لكي يسردها قصصا.. أو يعزفها سيمفونية تتكئ على ثبات ورسوخ في المبادئ والقيم التي تأسَّس عليها، وعلى الرَّغم من إسهاماته التي لا تعدُّ من وجهة نظري، فإنه كفيل بنا نحن والأجيال القادمة أن ندرس فلسفة هذا التكوين من باب الشخصيات التي أثرت مسيرتنا النهضوية الفكرية (الإعلامية) لنأخذ منها القوة.. ولنرد لها جزءًا يسيرا من عطائها وتضحياتها.. فحقا إنها تضحيات وعلامات لأعلام لهم في الوغى صيت وفي البحار سفائن وقلاع.

حقاً.. وأنت هناك بين أحضان هامبورج أيُّها الشيخ المتواضع، فإننا نفتقد لقامة سامقة، وعمود من أعمدة التحرير الصحفي (رئيس تحرير) الذين مزجوا الإدارة والكتابة ليعبُروا ضفاف المعرفة، ويقدموا فنا من فنون الحياة الصحفية في أبرز توجهاتها.. فكم نحن بحاجة إلى رجال عاصروا النهضة لننهل من معين خبراتهم في مواقع شتى ضمن البوتقة الإعلامية.

همسة:

"أيُّها الشيخ: لا أقوى على مجاراة شخصك وهامتك، لكنَّني أسجل على بوابة الزمن رسالة تحمل من المعاني أجزلها، ومن الرموز أوضحها؛ فهي شفرة لا تحتاج لمن يفك تداخل مغزاها.. أو توازي بها كلماتك التي حيرتني وأضحكتني وأبكتني.. فثارت نفسي لتصف ثورانها، وما أنا إلا مجرد عابر في طريق أنت أسَّست بنيانه وشيَّدت أفقه وعمدانه؛ فتقبلها من تلميذ يقتفي أثر شيخه حتى ولو لم يره.. فكم أتمنى أن أُغمض عيني فأجدني أقاسمك لوحات الجمال في هامبورج ومحيطها!

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك