المواطنة: هل سنخترعها مرة أخرى؟

د. سيف بن ناصر المعمري

saifn@squ.edu.om

نحن لم نخترع المواطنةولكننا استعرناها من المجتمعات التي عرفتها منذ زمن طويل، ولكننا هذا الاختراع الذي ابتدعه الآخرون من أجل إيجاد متجمعات متماسكة لها نفس الحظوظ في التمتع بخيرات الوطن وفي المشاركة في اتخاذ قراراته، لا نزال غير قادرين على استخدامه شأنه شأن كثير من الأجهزة والمعدات والأفكار التي نأخذها من هذا العالم ولا نقدر- للأسف على توجيهها لصالحنا، بلإنّ الأمر لم يتوقف على صعوبة الاستخدام فقط حيث يدعو البعض إلى اختراع مواطنة خاصة بنا، ولا أعرف دلالات الخصوصية هنا، هل هي ناتجة من تفوق مجتمعنا على غيره من المتجمّعات في قيم المواطنة أم هي ناتجة من عدم قدرته على توظيف المواطنة وفق رؤيتها التقدمية الإنسانية، أو هو ناتج من الشعور بالشمفونية الوطنية ولو سلمنا بأننا لابد أن نخترع مواطنة خاصة بنا، هل ستكون صالحة لتأخذ بها المجتمعات الأخرى؟

حديثي عن المواطنة في هذا الأسبوع جاء نتيجة مواقف عدة شاهدتها خلال الفترة الماضية في إحدى الدول النامية التي يبدو أنها نجحت في استخدام المواطنة في بناء مواطنين مسؤولين قادرين على تحقيق الرخاء لأنفسهم ووطنهم، حيث رسخت المواطنة على أنّها مسؤولية لابد للجميع أن يمارسها، جعلوا منها قانونا لا يمكن لأحد انتهاكه، فلم تعد المواطنة عبارة عن سلم درجات يضع الذين يقفون في الدرجة الأعلى قانونا خاصا لهم يميزهم عن بقية المواطنين الذين يقفون في الدرجات السفلى، مما ضيع قيمة المساواة التي لا غنى عنها لتعزيز الانتماء حيث تشعر الجميع بأنّهم متساوون طالما هم يلتزمون بالإطار القيمي والقانوني الذي يحكم الجميع.

كان الموقف الأول الذي شاهدته أول دخولي لمطار هذا البلد النظام الذي يضبط إيقاع حركة المواطنين، والإيمان بالنظام يعتبر روح المواطنة في العصر الحديث، لأنّه هو الذي يقود إلى إرساء الاستقرار وتحقيق التنمية، ويقضي على الفجوات التي يمكن أن يدخل منها كثير من الاستثناءات التي تجعل من الجميع يلتف على النظام من أجل تحقيق أهداف لا يسمح بها القانون، كنت أشاهد هذا، وفي اليوم التالي عرض التلفزيون تقريرا عن الفوضى وانتهاك قواعد النظام التي يقوم بها عدد كبير من الشباب الخليجين في مدينة لندن التي خرج المسؤولون فيها ينددون بحالة اللانظام التي يريد أن ينقلها هؤلاء إلى المجتمع الذي تربى على النظام، ذهب هؤلاء ينقلون الفوضى وتجاوز النظام بدلا من أن يذهبوا لتعلمه من هناك، ولكن هذه المجتمعات يعتبر الإخلال بالنظام فيها جريمة ولذا قرروا أن يضعوا عقوبات لحماية نظامهم من هذه الجماعات التي جاءت من مجتمعات لا يحترم فيها النظام إلا قليلون، فرحت أتساءل ما الذي طبقناه من اختراع المواطنة حين لم نفلح حتى اليوم في بناء مجتمع منظم، وفي تربية أفراد يحترمون النظام؟

لم يقتصر الأمر على درس النظام بل تعداه إلى دروس أخرى أهمها كان درس الأمانة أي عدم الاستغلال، وهذه تعبر عن حالة النزاهة التي متى ما كانت سمة بارزة في أي مكتب كان لها آثارها الاجتماعية والاقتصادية، هذه الأمانة تبرز عند الجميع من المؤسسة الكبيرة إلى المؤسسة الصغيرة، فهنا لا تخشى أن يتم استغلالك نتيجة جهلك، أو عدم إلمامك بالقواعد والبلد، الكل يحافظ على حقك في أن تنال حقك، شاهدت هذا وشعرت بألم عميق، كيف يكون هذا المجتمع غير المسلم بهذه القيم، ويكون المجتمع المسلم بالقيم السلبية، حيث يتم استغلالك حتى لو كنت يقظا من قبل الجميع أفرادًا ومؤسسات، ويتم التحايل عليك بشتى الطرق، أنّها الأوطان لا يمكن أن تكون قوية بدون مؤسسات نزيهة، ولا يمكن أن تتقدم بدون مواطنين نزيهين، ولا أعرف كيف يمكننا أن نصنع هذه النزاهة التي دفعت بمجتمعات اليوم إلى فتح محلات بدون بائعين، احتراما وتقديرا لنزاهة مواطنيها، ولا استطيع أن أجزم لو أننا نهجنا نفس النهج هل سنحقق نفس النتيجة؟ ما أعرفه أننا لابد أن نجرب ذلك من أجل غرس النزاهة في مجتمعاتنا.

وكانت القيمة الثالثة التي لفتت نظري هي المسؤولية في العمل، الكل يؤدي عمله على أكمل وجه، ويبذل جهد كبير حتى آخر دقائق، أنهم لا وقت لديهم للكلام فكل وقتهم مكرس للعمل، القاعدة عندهم من لا يعمل لا يمكن أن يحيا، وهم يشجعون أفراد المجتمع على أن يكونوا في كل الوظائف بدون أن يضعوا لهم شروط معقدة، انطلاقا من أنّهم يتعاملون مع سكان البلد أما الذي من خارج البلد فلن يدفعهم لأنّ يحرموا أحد مواطنيهم من وظيفة في حاجة لها من أجله، لقد كان هذا ملفتا جدا لي لأنني تذكرت أحد إعلانات الوظائف لمهنة بسيطة وضع له اثنا عشر شرطاً من ضمنها إجادة اللغة الإنجليزية، وبالتالي هم يجعلون شعارهم هو المواطن أولاً، ولكن أيضا المواطن ساعدهم على تحقيق ذلك الشعار لأنه يؤدي عمله إلى أكمل وجه.

أمّا المشاهدة الثالثة فهي مرتبطة بالهوية الوطنية..وأقصد بها اعتزاز سكان هذه البلد بهويتهم، فهم غير مستعدين إلى تبني لغة أخرى لدواعي اقتصادية، يجعلون بعضهم فقط يتعلمون لغات أجنبية ويعملون كمترجمين، وهم بذلك يفتحون فرص عمل لمواطنيهم، بدلا من يأتوا بآخرين يقومون بهذه المهمة، ونحن نعرف أنّ اللغة هي مفتاح الهوية، شاهدت ذلك ونظرت إلى واقع الاعتزاز بالهويّة في بلدنا حيث اللغة الإنجليزية تكاد تكون اللغة الرسمية فبعض المؤسسات الكبيرة تصدر تعميماتها باللغة الإنجليزية وتنتهك حق موظفين لا يتقنون هذه اللغة، بل أنني شاهدت وأنا أكتب هذا المقال افتتاح الأيام الثقافية العمانية في إحدى الدول ووجدت المسؤولين الذين ذهبوا لعرض الهوية العمانية لسكان ذلك البلد يتجردون من زيهم الوطني في أول يوم يلتقون فيه بشكل رسمي سكان ذلك البلد، وقلت في نفسي كيف نوفق بين خطاب الحكومة المتنامي خلال السنوات الماضية في شأن تعزيز الهوية في وقت يذهب مسؤوليها في الخارج يرتدون زياً غير زيهم الوطني، أليس الأحرى بنا أن نجسد اعتزازنا بهويتنا سواء في الداخل أو الخارج؟ سواء في المظهر أو في المضمون؟.

إنّ المواطنة المسؤولة تحتاج منا إلى التفاتة حقيقة لأننا لا يمكن أن نبني شيئا ذا قيمة إذا لم نبني المواطنة وقيمها الأساسية، والدروس التي تقدمها المجتمعات الأخرى لنا تستحق منا التأمل والاستفادة، وعندما ننقل شيئا ما علينا أن نسعى للتعلم من الثقافة التي ظهر فيها، بدون ذلك لا يمكن أن يحقق لنا ما يحققه في بلد المنشأ.

تعليق عبر الفيس بوك