مُغترب عربي على أمواج "المتوسط" المتلاطمة!

إبراهيم الهادي


على صَوْت ضجيج المركبات، وعلى صخب التلوث، وتحت الأمطار -وأحيانا على لهيب الشمس- يتوسَّدون قبعاتهم ويفرشون سجادتهم، ولم تثنهم الظروف عن صناعة دولاب لأنفسهم تحت الأرض ليحفظ لهم أدواتهم كإناء الاستحمام والفرشاة الملتوية... إنَّهم المغتربون العرب في دول أوروبا، بعضهم مَضَى عليه رُبع قرن على هذه الحال، والبعض الآخر خمس عشرة سنة؛ حيثُ جمعتني الصدفة برجل مصري بلغ من السن عتيًّا اسمه أحمد، ورفيق معه اسمه أسامة يبلغ من العمر أربعين عاما تقريبا، وخلال حديثي معهما انضمَّ إليهما رجل آخر من دول المغرب العربي، كان ذلك أمام فندق (Principe di savoia Milan) في مدينة ميلان بإيطاليا؛ حيث أخذ الرجل المسن يتحدَّث معي ويسألني من أين؟ وما وظيفتي؟ فقلت له: "أنا عربي مثلك، وأسكن سلطنة عمان"، وسألني عن مهنتي فقلت له: "أنا إعلامي، وجئت هنا لبعض العمل الصحفي"؛ فقال ما دمت إعلاميًّا فأنا أحمِّلك رسالة أريد منك أن تُوصلها بطريقة أو بأخرى إلى أهلي في مصر، وإلى المعنيين في الحكومة المصرية، وتُطلعهم على حالي وأحوال العرب هنا، وبالذات المصريين؛ فقلت له: "تفضل يا عم"، وأخذ يسرد لي تفاصيل حياته تلك، والأسباب التي أدَّت بهم إلى هذا الوضع؛ حيث يقول العم أحمد إنه وفد إلى إيطاليا قبل أربع عشرة سنة عندما كان الاقتصاد العالمي جيدا، وكان يعمل في إيطاليا بمقابل أجر، حاله كحال أي إنسان يقتات من عرق جبينه، إلا أنَّه وبعد انهيار الاقتصاد بأوروبا في السنوات الماضية، سرَّحوا العمال العرب الذين تقدَّر أعدادهم بخمسين ألف عربي -معظمهم من جمهورية مصر- ولم يستبق تسريحهم إشعار بمدة طويلة؛ مما جعلهم أمام واقع مُر لا فرار منه، فأصبحوا بلا مأوى ولا دخل، ولا أي شيء؛ مما اضطروا معه إلى تغيير نمط الحياة من الإنسان العامل الكادح إلى إنسان عاطل تأويه الشوارع لا حيلة له ولا قوة.
استطرد العم أحمد حديثه قائلا: "إننا أصبحنا لا نملك أي شيء حتى قوت يومنا، سوى أننا نتجه يوميا إلى الكنيسة لنأكل الوجبات الثلاث؛ حيث إنَّ الكنيسة توفر طعامًا لأربعة آلاف عاجز بشكل يومي، ورغم أنَّنا مسلمون إلا أننا وجدنا ما توفِّره لنا الكنيسة، فضل كبير، ونشكرهم على ما يقدمونه لنا من طعام". واستطرد قائلا: "إنني لا أريد منك ولا من أحد جزاء ولا شكورا، ما أريده فقط أن تنقل عنا هذه المعاناة وحياتنا نحن ومن معنا من العرب المغتربين في أوروبا، لعلَّنا نرجع إلى إهلنا برسالتك". وهذا المقال كان وفاءً بوعدي معه، وهاأنذا أكتب كلَّ ما قاله لي حتى أكون صادقا معه، وعسى أن تصل رسالته إلى القلوب الرحيمة أو للمعنيين في الحكومة المصرية أو للمنظمات الإنسانية في جمهورية مصر الشقيقة.
وما أريد لفت الانتباه إليه هنا أنَّ هذا الرجل المسن ورفاقه تعدُّ معاناتهم أقل بكثير عن الذين يموتون في عرض البحر في القوارب وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا؛ نتيجة الاضطهاد أو سوء المعيشة في دولهم؛ فكما علمت أنَّ أعدادًا كبيرة جدًّا تهاجر من دولها العربية ولا يعرف عن مصيرهم منذ سنوات ما يشير إلى تعرضهم للغرق أو ما شابه؛ لذلك على الحكومات العربية أن تلتفت إلى التنمية الإنسانية في استثمار الموارد البشرية، بدلا من تنفيرها بقساوة التخطيط والفساد والحروب، وما يُؤسَف له حقا أنَّ بعض الحكومات تصب جهودها في الحروب وملء ترسانتها العسكرية، بدلا من ملء بطون شعوبها؛ مما يستدعي الوقوف على هذا النهج ومراجعته؛ فالسلام أفضل بكثير من القتل والتشريد؛ فلنتجنَّب غضبَ الله.. لأنَّ الله يُمهل ولا يهمل.
 ibrahim@alroya.net

تعليق عبر الفيس بوك