امرأةٌ تُوشي بالموت!

مريم العدوية

في زاوية ما، ظل رجل يبتسم ساخراً / مُكذباً...

لم يدرك من قبل ما معنى أن تصبح الحياة لا تُطاق، الآن فقط أصبح يدرك المعنى الخانق الذي يحمل ضمن أطره كل معاني أن يعيش الميت، وأن يمارس كل طقوس اللاحياة مدعياً بأنه ما زال في عِداد الأحياء.

كم يغيظه الكم الهائل من الأسئلة التي تنهمر من شاهق دماغه ثم تطفو على شفتيه؟ فلا يرى داعياً لفكِ أسرها... كل أسئلتهُ لها ستنتهي بإجابات متشابهة...

لا أعرف.. ربما.. كما ترى أو إيماءاتُ تصيبهُ بالحُنق تحمل ذات معاني الصيغ السابقة.

يراوده شعور عميق بأنه يعيش مع جدار صامت سيصيبه عما قريب بعدوى الخرس وعدوى اللاوجود!

على قمة جبل يطلق الآن شهيقه وزفيره بوجع يصعب ترجمته، المدينة من أعلى تبدو مبهجة ومغرية، تحدثه نفسهُ: كم أنت مخادعة أيتها المدينة المدعيّة؟ كل هذه الأضواء المتراقصة تعجز عن إبهاج روحي؛ لأنني أدرك تماما بأن أغوارك تدس الكثير من الظلام!

حرر رأسه من المصر وأزاحه قليلاً غير آبه بهيئته، هذا السكون والظلام يمدُّ له من الحرية ما يهون عليه آلامه. رمى حجراً صغيراً على قارعة الطريق أمامه، وهدير السيارات لا يلبث يختفي ويعود واخزاً خاصرة المكان وهدوئه. يُضَيقُ عليه الخناق مجرد التفكير في أمر العودة إلى البيت، أصبح البيت بالنسبة له بمثابة أسر ومقابلة زوجته تصيبه بالحسرة على عمر قضاه باحثاً عن مفتاح فرج لا وجود له.

زوجته التي يراها الجميع ملاكاً يمشي على الأرض وهو لا ينكر بأنها كذلك، ولكن الأمر الذي يخفى على الجميع بأنها أقرب لكونها صنماً عن كونها ملاكاً! كم كانت والدته فخورةً باختيارها زوجةً له!

سردت له الكثير عن هدوئها وصمتها، ليتها الآن تعلم بأن ما سبب شقاء ولدها سوى هدوء وصمت / خرس زوجته السرمدي!

عندما فكر ذات مرة بصوت مسموع أمام عائلته عن رغبته بالزواج من أخرى، فُتِحَت العيون على أوسعها وشهقت الحناجر وكيل له من الوصم بالعار ما الله عالم به! حيثُ وجد الجميع بأن ما هو مقدم عليه ليس إلا كشأن اليهود الذين سألوا الله أن يباعد بين أسفارهم بعد أن بطرت نفوسهم الراحة والدعة!

لم يتناقش أي واحد من أهله معه عن الأسباب ولم يتيحوا له حتى ثوان معدودة؛ ليسوق فيها أعذاره كان مداناً على جريمة أثبتوا أنه مقدمُ عليها.

عاد يومها والغثيان يظلل طريقة، متخبط رأسه بمكر ومفر من الأحاجي... قلبه يستغيث:

أؤمن بأن امرأة واحدة تكفي.. امرأة تنطق، تشعر وتحاور!

حاول مراراً أن يكتشف أمراً يضايقها؛ علهُ يستفز هدوئها البغيض، يشتهي أن يوقظ اللبوة بداخلها فيرى أنوثتها تنطق وتتحدى وتشاكس رجولته المتعبة، ولكن بلا جدوى، ملاكه لا يشبه من كائنات الطبيعة شيء، مسالمة لدرجة لا يمكن أن يتصورها أحد.

يعنفها بأقواله فتأتي ردودها كجارية ضعيفة، يغيظها بطلباته فتأتي باستجابات على فور السرعة وبصدر رحب!

يشتهي أن تضعه في المواقف التي تغازل فيها رجولته، فتتعارك أجواء منزلهما الهادئ/ الميت، لكن السراب وحده من يتصيد له في كل الاتجاهات.

سألها يوماً: لماذا الرمادي لون غالبية ملابسك؟

كادت إجابتها تصعقه لفرط حياديتها: الرمادي.. لون اللالون..

إذن حتى اختيارها للون الرمادي ليس سوى من باب عدم قدرتها على اختيار لون تفضله!

...رجل في الستين من عمره يقلب بصره على مدينة مخادعة ويحترق ما تبقى من حطام فؤاده...

يرى الموت أينما يمم بصره، وأزيز إجاباتها يتردد كصدى بغيض مستفز في أغواره:

لم أقل لهم شيئاً... فقط صمتت فقالوا: الصمت علامة الرضا، فزوجوني إياك.

مر زمن طويل لم ينطق ببنت شفه، وعندما طارت روحه بسلام خفيفة نحو المطلق وجدت على دفتر كان يرافقه منذُ زمن بعيد عبارة واحدة فقط: (ليست سوى امرأة توشي بالموت... بالموت وحسب).

أغلقت الدفتر..

ولم تغير شيئاً من عاداتها، ولاذت بالصمت.

تعليق عبر الفيس بوك