مشهدٌ جليلٌ يا طلابنا

عيسى بن علي الرواحي

في إحدى ليالي العشر اﻷواخر المباركة من شهر رمضان الفضيل، إذ بأحد الإخوة الصم البكم يدخل المسجد قادما من إحدى القرى التي تبعد بضعة كيلومترات عن المسجد الذي كنت فيه، وعما قليل يدخل صاحبه من ذات الفئة المبتلاة بهذه اﻹعاقة، والذي يسكن بجوار المسجد، وقد أخذ المتأخر كتيب (صفة الوضوء والتيمم والصلاة) لمؤلفه محمد بن سيف العامري من إصدارات مكتبة اﻷنفال.

جلست أنظر إليهما وعن مقصدهما النبيل الذي أتى بهما سويا في هذا الوقت المتأخر، وفي تلك اﻷثناء لاحظتهما يبحثان عن شيء مفقود بالمسجد، حاولت أن أعرف من أحدهما بلغة اﻹشارة عن الذي يبحثان عنه، فعرفت أنهما يبحثان عن قلم سبورة تركاه بأحد أدراج المصاحف الشريفة، وقد كانت على جدار المسجد سبورة صغيرة.

عرفت حينها جيدا دون شك أنّ مقصدهما النبيل هو التعلم والتعليم لا غير، ما دام الموجود كتابًا والمفقود قلما، ونعم المقصد ونعم قاصدوه!

اتصلت فورا بأحد اﻷصدقاء الذين يسكنون بجوار المسجد، وأبلغته الخبر، وقال: القلم موجود وسآتيك به فورا بإذن الله.

أخبرت أحدهما بلغة اﻹشارة بأنّ القلم سيأتيكما عمّا قليل، وأمّا اﻵخر فكان منهمكًا في البحث عنه، وما إن عرف حين أخبرته حتى تنفس الصعداء، وعادت له ابتسامته المعهودة التي غادرته فترة البحث عن أول مخلوق خلقه الله ألا وهو القلم.

وقبل أن يصل القلم أخذا ساعة إلكترونية غير صالحة، وقاما بتنظيفها من اﻷتربة وحاولا إصلاحها، ولكن القلم لم يتأخر وصوله ولله الحمد والمنة.

كان أحدهما ممسكا الكتاب بيد، وباليد اﻷخرى القلم، وظل يدون التوجيه (توجيه الصلاة) على السبورة حتى انتهى.

وقفا أمام السبورة المدوّن عليها التوجيه دون أن تقف اﻹعاقة عائقا، وهما يتدارسان ألفاظ التوجيه ومعانيه وكيفية استشعاره في القلب بلغة اﻹشارة. يمران عليه كلمة كلمة وعند كل كلمة يقفان يتبادلان حديث اﻹشارة بينهما حيث تنزيه الله الخالق وحمده وثناؤه وتمجيده والتوجه الخالص إليه بالعبودية التي جاء بها اﻹسلام دون ميلان ﻷي ديانة، وتارة يرجعان إلى الكتيب المليء بالصور واﻹيضاحات.

هذا ما أحسبه وما كان واضحا لديّ أن أحدهما يقوم بدور المعلم واﻵخر دور الطالب، ولكنها حصة استذكار ومراجعة لا درسا جديدا.

روعة المشهد أن تجد الحماس الكبير من قبل المعلم في إيصال المعلومة، والرغبة الجامحة في معرفة كل ما لديه من علم من قبل الطالب، وأما البسمة التي أضفاها حب التعليم والتعلم فلم تكن تغادرهما.

مشهد جليل تجلت لي فيه مشاهد عظمة العلم وحبه والسعي إلى طلبه وتحدي الصعاب وتذليلها للوصول إلى قمم العلياء التي لا تدرك إلا بالعلم، وتذكرت حينها ما لا يعد ولا يحصى من مواقف مغايرة نعيشها في مدارسنا.

تذكرت طلابا إن نسي معلمهم قلما أو كتابا بالفصل، فعلى القلم والكتاب السلام.

تذكرت طلابا يتوافدون على غرفة الصحة المدرسية، المتمارضون منهم أكثر من المرضى، وتذكرت طلابا إن أصابتهم علة في يد أو قدم فإنّهم إن غابوا نسوا المدرسة، وإن حضروا أهملوا وتكاسلوا بحجة اﻹصابة.

تذكرت طلابا صغارا وكبارا إن سألناهم عن ألفاظ الصلاة ومعانيها في التوجيه أو التحيات عجزوا عن الرد والجواب.

تذكرت طلابا لا يسألون إن جهلوا، ولا يجيبون إن علموا، ولا يستمعون إن نُصحوا، ولا يبالون إن رسبوا.

تذكرت طلابا لا تراهم أثناء الشرح والتعليم إلا عابسين مقطبين جِبَاهَهم حتى يفرج الله كربهم بخروج معلمهم.

تذكرت طلابا لا يأتون المدرسة إن ذهبت عنهم الحافلة، وتذكرت طلابا لا يدخلون الفصل إلا متأخرين.

تذكرت أساتذة لم يبلغوا حماس وهمة ذلك الأصم اﻷبكم الذي يدارس ويعلم أخاه الذي بلغ حبه للاستفادة والتعلم درجة لم يبلغها كثرة كاثرة من طلابنا.

مشهد جليل أبطاله أصمان أبكمان حملا معاني سامية وهمما في طلب العلم عالية ومحبة في الله أحسبها خالصة وصداقة صادقة، ذكرني بمشاهد من شخصيات اﻷصحاء المعافين تحمل معاني تدمع لها العين ويحزن لها القلب، والله المستعان.

عيسى بن علي الرواحي

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك