اللهم إنَّا نعوذ بك من الفتن

زاهر المحروقي

هناك فارقٌ بين أنْ يُعلن الإنسان عن رأيه في أيَّة قضية، وبين أن يُثير الفتن أو أن يعطي لنفسه الحقَّ في التحدُّث عن الآخرين، وكأنه مفوَّضٌ من قبلهم أن يتحدث عنهم، والمسألةُ تكون عظيمة عندما يكون هؤلاء الآخرون الذين تحدَّث عنهم هم شعب بأكمله، له تاريخه وحضارته وله حاضره، مثل الشعب العماني.

ومناسبة هذه المقدِّمة هو ما ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المغرِّدين في وسائل التواصل الاجتماعي، الذين أعطوا أنفسهم صفة "المتحدث باسم العمانيين"؛ فأصبحوا يوزعون ولاء الشعب العماني جزافاً ومجّانا لكلَّ من هبّ ودبّ، وغالباً تحت تأثيرات مذهبية، ممّا ينذر بالخطر على أمن الوطن واستقراره؛ فنحن أساساً لنا قضايانا الداخلية التي تحتاج إلى التركيز عليها، ولسنا في حاجة إلى استيراد أمراض الآخرين وفكرهم الهدام كفكر داعش وأخواتها.

صحيح أنه لا ينبغي أن نركز على التغريدات التركيز الكلي -باعتبار أنَّ سياسات الدول لا تُبنى على التغريدات- إلا أن الصحيح أيضاً هو أنه يجب أن نهتم بدراسة ما يأتي فيها، لأن مواقع التواصل أصبحت ساحة مفتوحة لقياس توجهات الرأي العام، وهي ساحة ومتنفس لكل من كان له رأي ولا يستطيع أن يقوله إلا أمام زوجته أو خاصته؛ فإذا المجال قد انفتح أمامه ليعبر عما في نفسه ويخرج الكبت الذي فيه؛ لذا قرأنا تغريدات للبعض يعبرون فيها عن ولائهم وانتمائهم للخارج وبأنهم جنودٌ لدول تختلف سياساتها جذريًّا عن سياسة وطنهم الأم عُمان، في ظاهرة تحتاج من علماء الاجتماع أن يبحثوا عن أسبابها، وقد تكون رسائل مرسلة إلى الخارج وتحتاج إلى فك رموزها، رغم أنها واضحة وضوح الشمس.

... إنَّني أعود في مقالي هذا، إلى مقال سابق لي نُشر بجريدة "الشبيبة" تحت عنوان "نعمة الأمن والاستقرار"، بتاريخ 23/12/2008، وهي فترة تمتد إلى سبع سنوات؛ حيث قلت فيه "إننا نعيش -ولله الحمد- نعمة عظيمة ومنة ربانية كريمة هي نعمة الأمن والاستقرار، يستظل بها الجميع من شر الفتن، والرسولُ الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- أكد على عظم منزلة نعمة الأمن، عندما قال عليه الصلاة والسلام: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"؛ فلنا أن نتصور ما وصل إليه الآخرون من فقدان الأمن، ومن الاقتتال باسم المذاهب، ومن البلاء والفتن والتباغض؛ ونظرةٌ واحدةٌ فاحصةٌ للأوضاع في العالم تجعل من الإنسان العاقل يتفكر ويتدبر ويخشى مصيراً كذلك المصير.

والولاء يجب أن يكون لعمان؛ لا أنْ يكون لأيِّ انتماء آخر؛ سواء كان مذهبيًّا أو عرقيًّا أو حتى نفعيًّا مُؤقتا، ويجب أن يبقى ولاء وانتماء العمانيين لبلدهم مثلما كانوا دائماً، لا أن يكون ولاءً وانتماءً للسعودية أو لإيران أو باكستان أو تنزانيا أو أمريكا وبريطانيا...أو غيرها؛ بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان".

وأعودُ لأتساءل كما تساءلت في ذاك المقال: لو افترضنا جدلاً أنَّ هناك عُمانيين نصارى فهل يجب أن يكون ولاؤهم لبابا الفاتيكان..؟ ولو فرضنا وجود عمانيين أقباط فهل يجب أن يكون ولاؤهم للأنبا تواضروس في مصر..؟ ولو قلنا إنَّ ثمة عمانيين يهوداً، فهل يجب أن يكون ولاؤهم لنتنياهو؟!

لا يحتاج أن نعطي بعض تلك التغريدات أكثرَ من حجمها، ولكننا يجب أن ندرسها وندرس أسبابها؛ فغالباً معظم النار تكون من مستصغر الشرر، وقد تكون هناك أسباب تجعل من البعض يفقد ولاءه وانتماءه -ولو أن هذا الشيء ليس له ما يبرره أبداً- مما يتطلَّب العمل على إيجاد برامج تعمل على إبعاد المجتمع العماني من أي خطر محتمل قبل أن يستفحل أمره ويخرج عن نطاق السيطرة، وهذا ليس بمستبعد أبداً، فنحن لسنا أقوى من مصر أو من سوريا أو العراق، ولننظر ما حل بهذه الدول.

والناس بصفة عامة قد يتَّجهون إلى الأفكار الخارجية أو غير السوية عندما يحسون أنهم قد فقدوا العدالة الاجتماعية أو الإنصاف في العمل أو في كل ما يؤدي إلى الإحساس بالاضطهاد، على حساب قلة قد سيطرت على الأمر على حساب الأغلبية، وغير ذلك الكثير من الأمور؛ مما يُسهِّل على الآخرين استغلال الظرف، ولا يخفى أن من يريد استغلال "هذا الظرف" في عُمان هم كثيرون -وتسريبات ويكيليسكس خير شاهد- وهذا يعطي مسؤولية كبيرة للدولة، بوضع الحلول العاجلة لكل الأمور العالقة أولاً، ثم دراسة الأوضاع دراسة شاملة دون ترك الأمور تمشي "بالبركة" حتى تخرج عن السيطرة.

... إنَّنا بحاجة ماسة إلى تأصيل مبدأ الانتماء الوطني، بعد أن أصبح الشائع لدى الجيل الجديد: عدم المبالاة بأي شيء، وعدم الاستعداد للعطاء للوطن، وأصبح الشباب يعيشون دون هدف ودون هوية، بل تعدى الأمر ذلك إلى أن يفكر الناس في الأخذ فقط دون العطاء، لدرجة أن مسألة الإجازة كانت قضية الناس الأساسية والتي امتلأت بها ساحات النقاش، وعندما يعيش الشباب الفراغ يكونون صيداً سهلاً لأي فكر، حتى وإن كان عن طريق ثرثرة عبر التويتر أو الفيسبوك.

لقد كفل النظام الأساسي للدولة الحرية للجميع، بل هي حق يجب أن ندافع عنه، ومن حق أي إنسان أن يبدي رأيه بكل أريحية، ولكن ليس معنى ذلك أن تكون هذه الحرية في إلغاء الآخرين، وفي نقل الأمراض الخارجية إلى الداخل، أو في إثارة الفتن والنعرات الطائفية والمذهبية؛ فتلك خطوط حُمْر يجب ألا يتم تجاوزها، لأن آثارها مدمرة، ومن هنا ربما أعيد ما ذكرته مراراً من أننا نحتاج إلى وضع إستراتيجيات وطنية عاجلة وآجلة لزرع قيمة الانتماء إلى الوطن، تشترك في وضعها كافة الأجهزة المعنية في هذا الشأن، فلدينا في عمان -ولله الحمد- نقاط قوة يمكن أن نستمد منها العون على المضي قدماً في بناء الانتماء الوطني، لعل أبرزها التسامح الذي اتصف به المجتمع العماني على مر العصور؛ فهذا التسامح كان ولا يزال سبباً مهمًّا من أسباب الأمن والاستقرار، ولا بد من المحافظة عليه، وعندما تتعامل أي دولة مع أبنائها من منطلق وطني خالص -بغض النظر عن التوجهات السياسية والفكرية والمذهبية للناس- فإنَّ ذلك من أسباب النجاح، وهي من الأسباب الأساسية التي تزرع قيمة المواطنة عند المواطنين، ونحن -ولله الحمد- نقول إن هذا حاصل في عمان، وهي من المبادئ الأساسية التي مشى عليها جلالة السلطان المعظم -حفظه الله- والشواهدُ لا تحتاج إلى تفسير، ثم إنَّ علينا ألا ننخدع بكثرة المديح الذي يكال لنا في الخارج عن ذلك التسامح، بل علينا أن نحافظ عليه، لا أن نعلن عبر أكثر من تغريدة أننا جنود للخارج وتحت الإشارة..!

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك