المؤمن الذي ألهم الملاحدة!

ناصر محمد

لطالما كان الإيمان والعقل، على مرّ العصور، أمرين لا يتقابلان إلا في ساحات الحرب والمحاكم التي لا تعرف التسامح. فالمؤمن ينفي العقلاني لاستخدامه ما يهدد الإيمان وهو العقل، والعقلاني يقوّض الايمان بمجرد تحديده بمبضع العقل، ولربما هادن الإيمان العقل ولكن لتأييد الأديان. أمّا العقلاني، فإنّ رحلته أصعب للوصول إلى الإيمان الذي يوافق العقل. أو في أيسر الأحوال، فصلهما عن بعضهما لتعذر اللقاء بينهما.

في ظل هذه الحروب الأزلية بين شتاء العقل وصيف الإيمان، كان لابد أن يوجد ربيع يجعل النقيضين يلتقيان وجهًا لوجه ولكن ليس بأدوات القتل والتكفير والتعصّب، وإنّما في إجابة سؤال الحياة عن جدواها للإنسان؟ ودفع الإيمان والعقل إلى محطتهما النهائية التي تنبئ ببرودة العقل وتعصّب الدين، وبحث ما يتعالى عليهما في محطة أكبر والتي يلتقي فيها الخصمان بدون جدال ألا وهو "الحب"، إذ يقول "دوستويفسكي": الجحيم هو العجز عن الحب!

إنّ دوستويفسكي، المؤمن الذي ألهم الملاحدة مثل: نيتشه، فرويد، هايدغر، ألبير كامو، سيوران، والذي شغل غيرهم من الأدباء الإنسانيين مثل تولستوي وستيفان تسفايج وكولن ولسون، يعتبر من الروائيين العظام الذين كشفوا الكثير عن أسرار النفس البشرية وما بها من صراع دون إحالته إلى ميتافيزيق خارجي، وهو الكاتب الذي لم يخف أن يتجاوز حدود الأخلاق المثالية التي تغطي على طبيعة الإنسان التدميرية، وأن يبين تناقضات هذا الإنسان في مرحلة حرجة كانت تمر بها روسيا والعالم إذ كانت موجة "نزع المسيحية" في أوجها بسبب العقل، ليختار دوستويفسكي بشجاعة أن يواجه هذه الموجة عن طريق كشف مصيرها، وإلى أين تتجه، والحل الإيماني المشبع بالحب الذي يجيب به على سؤال سميردياكوف في "الإخوة كرامازوف": إذا كان الله غير موجود، إذن فكل شيء مباح!

ولكن لماذا تأثر المفكرون والفلاسفة الأوروبيون ذوو الاتجاه الإلحادي بهذا المؤمن المسيحي؟ فدوستويفسكي، بعد خروجه من سجن سيبيريا، كان قلبه مغمورا بالحب الإلهي ذي النزعة الصوفية، لكنه كان صاحب موقف ضد المسيحية بشقها الروماني الكاثوليكي، فهو يشير إلى أن المسيحية الكاثوليكية انحرفت عن المسير عندما تحكمت برقاب الناس وأشغلتهم عن حريتهم في إرادة الاختيار، وهذا ما جعلها هدفا سهلا للعقل الذي أراد استبدالها بتأليه الإنسان، وهذا العقل نفسه بمنحاه التنظيمي والتنسيقي كان هدفا سهلا أيضا للعدمية المتمردة على الانضباط، فكأن دوستويفسكي هنا يؤدي رسالة شبيهة بكانط عندما حاول إنقاذ العقل من براثن التجريب، بينما كانت رسالة دوستويفسكي هي إنقاذ الإنسان من براثن العقل والعدمية!

ربما سبب تأثر هؤلاء المفكرين بدوستويفسكي يعود إلى اتفاقهم جميعا على إفلاس العقل في التوجيه، فنيتشه الذي وجّه معاول هدمه للعقلانيين مثل سقراط وأرسطو وهيجل يقول عن دوستويفسكي بأنه كان بالنسبة له سيكولوجيًا وحيدًا جدير بالتعلم منه. أما نظيره الألماني "مارتن هايدغر " فيقول في مذكراته عام 1958 أنه وضع دوستويفسكي ضمن قائمة قصيرة من المؤلفين الذين قرأ لهم بشغف عام 1910، وأوصى لجامعة "فايبرغ" التي كان يعمل بها أن يشتروا نسخة لأعماله الكاملة. ويقول صاحب التحليل النفسي "فرويد" في كتابه "التحليل النفسي والفن": تعلّمت سلوك النفس البشرية من روايات دوستويفسكي، وهو روائي عظيم حقاً، كتب مجموعة من الروايات تدور تقريباً جميعها عن السلوك الإنساني وتحليل السلوك البشري بطريقة فنية أدبية رائعة.

وفي مقابلة متلفزة لرائد العبثية "ألبير كامو" بمناسبة كتابة مسرحيته "الممسوسون" المقتبسة من رواية دوستويفسكي التي تحمل نفس الإسم، أجاب كامو عند سؤاله عن إذا كان دوستويفسكي ذو نزعة تنبؤية: نعم أرى أن دوستويفسكي ذو نزعة تنبؤية، فهو يعالج قضايا فراغ القلب وانعدام الثقة بالأديان الذي كان شاغلا لدوستويفسكي في زمانه والذي يشغلنا الآن بكثير في واقعنا المعاصر. ويقول "سيوران" عنه في حوار له: إن دوستويفسكي، في نظري، هو العبقري الفذ والروائي الأكبر، عنده نجد جميع ما نتمناه، جميع الفضائل. وعنده سؤاله تحديدا عن متى بدأ بالشروع في قراءته له أجاب: منذ البدء لكنني لم أستوعبه إلا فيما بعد، خلال ليالي الأرق استوعبت عمله. إنني في كل الأحوال، لا أحب سوى المرضى الكبار، وعندي، الحق يقال، أن الكاتب غير المريض هو تقريبا، وبشكل صريح، شخص من الدرجة الثانية. وللمؤرخ الروسي "الكسندر ف سولوفيف" أيضا وجهة نظره العميقة عن دوستويفسكي حين يقول: إن معاصري دوستويفسكي قد أساءوا فهمه، فأكثرهم لم يشأ أن يرى فيه إلا كاتبا اجتماعيا يدافع عن الفقراء والمذلين والمهانين، فإذا عالج مشكلات ما تنفك تزداد عمقا أخذ بعضهم يشهر به ويصفه بأنه "موهبة مريضة"، ومن النقاد من لم يدرك الواقعية الخيالية التي يمكن أن توصف بها أعمال دوستويفسكي إنما تسبر أعمق أغوار النفس البشرية، وأن دوستويفسكي كان رائدا سبق نظرية التحليل النفسي التي أنشأها فرويد وآدلر، وأنه زرع هذه المشكلة الميتافيزيقية، مشكلة الصراع بين الخير والشر، في كل نفس.

يبدو أن أغلب المفكرين الوجوديين والملاحدة قد اتفقوا بالفعل مع دوستويفسكي في عداوتهم للعقل، وأن العقل كان رقيبا على حرية الإرادة. ولكن الاختلاف يكمن في مصير هذا الهدم، فدوستويفسكي لا حلَّ لديه سوى بالحب، الحبُّ المسيحي النقي الذي يجسّد بالمعاناة لأجل سعادة الآخرين، والذي بدونه لن يكون للأخلاق قيمة، فدوستويفسكي كان ضد العلم الذي يجعل من الإنسان موضوعا للدراسة، ولهذا شنّ على المذهب الوضعي وما أفرزته من العلوم الاجتماعية هجوما عاتيا في تلك الفترة.

تعليق عبر الفيس بوك