رقائق(26)

المحنة.. ظاهرها ألم وباطنها رحمة

النفس إزاء المواقف التي يكون حتفها قاب قوسين أو أدنى بسببها بعد تنجيتها منها، إما أن تراجع نفسها فتتوب، وتدرك عِظَم فضل الله عليها، وإما أن يمر عليها كأن لم يكن شيئا مذكورا؛ فتعود إلى سابق عهدها من التمرد والعصيان. ولله تعالى في إرسال المصائب إلى الأنام في دنياهم حكما عديدة، فقد تكون مصائب ردع، عندما ينغمس المرء في فسوقه وعصيانه حتى الثمالة؛ فتأتيه المصائب لتنهنهه عن غيه، وعتوه، وطغيانه.

وقد تكون المحن ظاهرا ألم شديد، وعسر مرير، إلا أن في باطنها الرحمة من الله تعالى، فكم عاصٍ لله تعالى سنوات طوال، غارق في لجة معاصيه، أصابته مصيبة؛ فراجع نفسه بعدها،وحاسبها حسابا شديدا قبل نفاذ رصيد المسير من هذه الفانية، فرجع إلى ربه منيبا تائبا، عابدا خاشعا، ندم على التفريط في زمن العصيان، والبعد عن مراشد الهدى والقرآن، فأصلح حاله، وعدَّل شأنه، فكانت تلك المصيبة نعمة من الله تعالى؛ إذ كانت سببا لانتشاله من وهدة الحضيض، ومستنقع الغفلة والانحدار، وهذا شأن من وفقه الله تعالى لمراجعة النفس، ومحاسبتها على ما أسلفت. إذ كيف به لو أقدم على ربه، وهو متلطخ بشتى الأوقار والأوزار، ألا فليتأمل المتأملون، وليتعظ الغافلون، وليرجع عن غيهم المنتهكون.

وأما الفريق الآخر من البشر، فرغم تماديهم في عصيانهم، ومبالغتهم في فجورهم، يرسل الله تعالى إليهم المصائب تلو المصائب؛ لعلهم يراجعون أنفسهم، ويقعلون عن فسادههم، قبل رحيلهم من هذه الفانية، إلا أن تلك المصائب لم تحرك فيهم ساكنا؛ كأنهم خشبه مُسنَّدة، لا تعي ولا تعقل،(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(السجدة:٢١)؛ولكن وما هم براجعين، فليشفقوا على أنفسم من العذاب المهين.(وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)(الرعد: ٣٤).

عبدالله الحجي

تعليق عبر الفيس بوك