البلسم الشافي 20 (الجزء الثالث)

حمد الحوسني *

أيُّها الإخوة الأعزاء، اليوم نختم ما أردنا نقله من تفسير ابن عاشور "التحرير والتنوير" حول قول الله تبارك وتعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا"؛ فهو كلام غاية في النفاسة، والشمولية، والدقة، وروعة التقسيم، وحسن البيان؛ مع التنبيه إلى أن لبعض العلماء المحققين نظرا حول بعض النقاط التي ذكرها، وليس محل نقاشها الآن.

وقد توقفنا في لقائنا الماضي عند قوله: ((وقد علم من قوله: "كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ" وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما، وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم)).

ثم يقول بعد ذلك: ((لأن "كثيرا" وصف؛ فمفهوم المخالفة منه يدل على أن كثيرا من الظن لم نؤمر باجتنابه؛ وهو الذي يبينه: "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" أي أن بعض الظن ليس إثما؛ فعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنيين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها؛ من الكتاب، والسنة، وما أجمعت عليه علماء الأمة، وما أفاده الاجتهاد الصحيح، وتتبع مقاصد الشريعة، فمنه ظن يجب اتباعه؛ كالحذر من مكائد العدو في الحرب، وكالظن المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية؛ فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة. وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم؛ إلا أنها لا تقوم حجة إلا على الذين يرون العمل بمفهوم المخالفة، وهو أرجح الأقوال؛ فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه.

وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدرى فمعتاده منه من إصابة أو ضدها قال أوس بن حجر:

الألمعي الذي يظن بك الظن...

كأن قد رأى وقد سمعا

"وَلا تَجَسَّسُوا": التجسس من آثار الظن؛ لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظان نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجنيس؛ فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة.

وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر بهم.

فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجر منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم، فلا يشمل التجسس على الأعداء، ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص)) بتصرف.

وجاء في كتاب "أيسر التفاسير" للشيخ أبي بكر الجزائري (بتصرف بسيط): ((وقوله: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا"، ينادي الله تعالى المسلمين بعنوان الإِيمان؛ إذ به أصبحوا أحياء؛ يسمعون، ويبصرون، ويقدرون على الفعل والترك؛ إذ الإِيمان بمثابة الروح إذا حلت الجسم تحرك؛ فأبصرت العين، وسمعت الأذن، ونطق اللسان، وفهم القلب؛ فيقول: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن"، وهو كل ظن ليس له ما يوجبه من القرائن والأحوال والملابسات المقتضية له، ويعلل هذا النهي المقتضى للتحريم فيقول: "إن بعض الظن إثم"؛ وذلك كظن السوء بأهل الخير والصلاح في الأمة؛ فإِن ظن السوء فيهم قد يترتب عليه قول باطل، أو فعل سوء، أو تعطيل معروف، فيكون إثما كبيرا)).

وبهذا يتبيَّن أنَّه يجب أن يحسن الظن في المسلم ما لم يكن هنالك دليل قاطع لا شك فيه يدل على خلاف ذلك.

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس).

تعليق عبر الفيس بوك