سؤالٌ للتاريخ: ماذا فعلنا؟!

د. صالح الفهدي

الآن وبعدَ الإنحدار الأخلاقي الذي شرّعت له أمريكا بقانونزواج المثليين الذميم، والمخالف للفطرة الإنسانية، نقعُ نحنُ بين تطرّفين: الأوّل؛ إباحي، متهتّك، لا تقرّه إنسانية تقوده "إمامةُ" العالم أمريكا، والثاني: غلّو، متوحشّ لا يقرّه دين تقوده داعش..! نحنُ إذن بين حضيضِ الشهواتِ، ودماءِ الغزوات، بين الإباحيةِ المجاهرة المنفلتةِ من عقال الشرعة الإنسانية، وبين الوحشية الإنسانية الدموية..! فماذا فعلنا وما الذي نفعله؟! يقولُ أحد التونسيين لإذاعة BBC بعد هجوم "سوسة"الذي قتل فيه (38) سائحاً: لم أسمع عن برنامج يواجه تطرّف داعش، وفكرهم المنحرف تبنّته الدول العربية. وهذا ما لم نسمع به أيضاً..! تنظيمٌ يعتمدُ على عشراتٍ أو مئاتٍ استطاع أن يستقطب بفكرهِ الظلامي الإجرامي الآلاف من الشباب من كل بقاعِ الأرض، ودولٌ تمتلكُ مؤسسات قائمة، وموازنات هائلة لم تحرّك ساكناً لتواجه ضلالة فكره، إلا أجهزتها الأمنيّة، بينما كشفت إمّا عن ضعفها أو تخاذلها في المبادرة للتصحيح الفقهي والفكري والاجتماعي والإقتصادي والسياسي..!!

لم نسمع عن موقف تنديدٍ للقانون الأمريكي الذي شرّع اللّواط وجعله قانوناً وضعياً ليشهد على انتكاسة الأخلاق الإنسانية، وخساسة النفس البشرية..! صمتٌ مطبق حتى لا تغضب "إمامةُ" العالم التي إن آمنت بشيءٍ فعلى العالمِ أن يؤمن به طوعاً أو قسراً..! وقريباً ستبشّر الدّول الإسلامية بفتحِ ملفّات زواج المثليين لأنها بندٌ من بنودِ اتفاقية حقوق الإنسان..أي إنسان نعني؟! سيحتاجُ هذا إلى تعريفٍ جديد..!

وفي المقابل لا نجدُ المواقفَ الحازمة التي تكفّر داعش وتخرجها من ربقةِ الإسلام صراحةً، حيثُ إن بعض العلماءِ يترددون في تكفيرهم رغم الجرائم البشعة، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وخراب الأوطان، وترويع الآمنين، وكأن ما تفعله داعش من أصنافِ الإرهاب لا يرقى إلى مرتبة الخروجِ من ملّةِ الإسلام..!! لا أكاد أفهمُ هذا الأمرِ من بعض العلماءِ..! أكلُّ هذا التنكيل والتشويه بالإسلام وأهلهِ لا يصلُ إلى التكفير..؟ إذن فما هو التكفير؟ وما معنى قوله تعالى :"ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً"(النساء/93) في حين فإنهم يكفّرون مخالفي فكرهم العقيم، وعقيدتهم الضّالة، لكن لا يجوز - في رأي البعض- تكفيرهم..!! وهم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى"فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"(آل عمران/7).

ما الذي تفعلهُ الدول العربية في الخفاءِ ولا تعلمُ به شعوبها غير التنسيقات الأمنية والتحالفات العسكرية؟! أمّا ما هو أهم فقد تُرك شأنه، ولُزمَ فيه الصمت، وأقصدُ به العقلُ الإنساني، والنفس البشرية، تعليماً وتثقيفاً، ووعياً وترشيداً..

فإن كانت وزارات التعليم تتحرّكُ في الخفاءِ لتصحيحِ الأفكار العقيمة، والمناهجِ السقيمة، بإنشاء دوائرَ أو أقسام أو مناهج فمن الذي أُوكلت إليه هذه المهام؟ هل أُوكلت لأشخاصٍ يحملون بذور الفكر المتطرف ذاته، والمنهج المنحرف نفسه ليعيدوا إنتاجها بصورةٍ أخرى؟ أم أنّها أُوكلت لعلمانيين بينهم والدّين قطيعة ليسعدوا بالغنيمة التي جاءتهم على طبقٍ من ذهب من أجل أن ينشروا أفكارهم المنقطعة الجذور مع الإيمانيات؟ أم أنّها أُوكلت لأصواتٍ معتدلة تعي المقاصد الدينية وتتفهم حكمة العقيدة في التشريع فتوائم بين المقاصدِ والأحكام، وتعيدُ بناء الفهم المعتدل للدين، بعيداً عن شكليات الفهم، وسطحيات التفكير؟!

لا نسمع إلا همساً وكأنّ الدول العربية قد استسلمت لمصيرها على ما تملكه من قدراتٍ، وثروات، وقلّلت من الأمرِ، وهو جدُّ خطير، لا يمكنُ السكوت عنه بل يتوجب المبادرة لتصحيحه تصحيحاً شاملاً، وذلك بشذيب وتهذيب ما علق بالمذاهب من أفهامٍ منحرفة، وتفسيرات معوجّة، وميراثٍ ماضوي عقيم، ونشرِ العدالة الاجتماعية بتحسين سبل العيش الكريم للمواطن، ومساواته مع الآخرينفي فرصِ التعليم والصحة والعمل والإسكان وكل ما يتعلق بحقوق مواطنته وإنسانيّته، وإدارة شأن الدول إدارة حكيمة تحذر الوقوع في الفساد المالي والإداري والأخلاقي، وإعلاءِ شأن المواطن كيلا يشعر بالدونية والضيم فيُستقطب من قبل الجماعة المتطرفة.

أين هي برامج الدول العربية في مواجهة التطرف المتوحش، أو الإباحية المنفلتة؟! أين هي البرامج الإعلامية التي تنشرُ القيم الإنسانية الرفيعة؟ أين المشاريع الفكرية التي تهدف إلى رفع الوعي بالحياةِ، والعلمِ، والعمل، والعلاقات مع النفس والآخرين؟ أين هي البرامج الدينية التي تهدف إلى تعزيز الوازع الديني في القلوب، وتنوير النفوس بفضل الإيمان على الإنسان، وتبسيط الدين وارتباطه بسعادة الإنسان في حياته وآخرته؟ أين هي البرامج الاجتماعية التي تهدف إلى تثقيف المجتمع، ورفع درجات الوعي لديه بالسعي إلى تحقيق الأفضل للإنسان وللوطن؟ أين هي البرامج الاقتصادية التي تهدف إلى رفع مستوى المعيشة لدى الفئات التي تعاني من مكابدة العيش، ومشقّات الحياة؟

أمرٌ عجيب ألا يثير الأمرُ حراكاً واسعاً على صعيدِ التعليم، والفهم الفقهي، والتنمية الإنسانية عامة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإجراء البحوث المعمّقة للأسباب التي تقود الشباب إلى التطرّف المقيت، أو الانسلاخِ المبتذل.

إن الأمم لا تنهضُ ولا تتطور بغيرِ قاعدةٍ صلبة، وهذا ما فعلته اليابان التي علينا نحن العرب أن نتعلّم منها، ونأخذ عنها أُسسها التي قامت عليها، فهي دولة تندرُ فيها الموارد الطبيعية، وليس فيها عمق جغرافي أمّا 85% من أراضيها فتقع في دائرة البراكين..! إنّما وضعت لها أساساً واحداً للنهوض جعلها مثلاً عظيماً لكلّ شعوبِ العالمِ وهو بناءُ الإنسان. يذكر الدكتور حسين حمّادي في كتابه "أسرار الإدارة اليابانية"إلى أنّ القرار القومي بعد الهزيمة المذلة لليابان في الحرب العالمية الثانية "يكون بالتوسع الرأسي من خلال إنسان اليابان وعقله، وليس بالتوسع الأفقي باستخدام السلاح الياباني"..! وهذا ما حدث، ولكن الإنسان لا ينمو بغير قِيم، ولا يتأسس بغير أخلاق فتم إدخال "مادة السلوك والأخلاقيات بتناغم في جميع المواد المدرسية ونشاطاتها بالإضافة لبرنامج متخصص في الأخلاقيات يقدم ساعة كل أسبوع على مدار السنة وفي جميع السنوات الدراسية‏". ويزيد "Edwin O. Reischauer"في كتابه "اليابانيون" على ذلك بالقول: "إنّ سر نهوض اليابان هو المورد البشري وتنمية هذا المورد العظيم، مما جعل اليابان تتقدم على الصعيد العالمي في نسبة العلماء والمهندسين (60.000 لكل مليون نسمة)، وينخرط نحو (800.000) ياباني في مراكز الأبحاث والتطوير، وهذا العدد تجاوز ما لدى بريطانيا وألمانيا وفرنسا مجتمعة معًا".

في حين أنني أرى كأحد المهتمين بتعزيز القيم أنّ ما يحدثُ في مجتمعاتنا فيما يتعلّق بالقِيم وتطبيقاتها الممنهجة، لا يمكن أن يرتقي إلى مشاريع أو برامج فعلية، وإنّما هي مبادرات أفرادٍ أو جماعاتٍ متطوعة تدفعهم الغيرة على مجتمعاتهم، فكم هي المشاريع والبرامج والدراسات التي لم تلتفت إليها المؤسسات المعنية الزاعمة اهتمامها بالقيم الإنسانية..! فما أسهل التصريح لدينا وما أصعب التطبيق..!!.

وهناك أمرٌ هام جعلته اليابان في سلّم قائمة القيم التي اعتمدتها بينما أهملتها الكثير من الدول العربية آلا وهو دعم القيادة الوطنية الصالحة والوقوف وراءها..!!. فما أحوج مجتمعاتنا في هذه المرحلة التاريخية تحديداً إلى دعم القيادات المعتدلة، والوقوف إلى جانب القيادات الصالحة لتتولى زمام الأمور فيها، ولترعى مصالحها، ولتدير شؤونها بعقلٍ منفتح، وقلبٍ متسامح، وفكرٍ مستنير، بعيدٍ عن الغلوِّ المتطرف، والابتذال المتهتّك.

 

تعليق عبر الفيس بوك