البلسم الشافي (الجزء الثالث)

حمد بن عبد الله بن محمد الحوسني*

أيها النبلاء، أحببت أن أنوه إلى أنني لست في هذه السلسلة بصدد ذكر كلام العلماء حول ثبوت ومعنى الأحاديث التي قد تأتي في كلام بعض من أنقل عنهم، ولكنني قد أذكر نقاش العلماء حول بعضها؛ مما أرى الضرورة داعية إليه.

ولا زلنا في هذه الحلقات من هذه السلسلة نبين خطورة مرض (سوء الظن، والتشكيك في نيات الآخرين)؛ والذي قد انتشر في مجتمعات المسلمين، ونذكر العلاج الذي يستأصله؛ من خلال ذكر بعض تفاسير العلماء حول قول الله -تبارك وتعالى-: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ".

جاء في تفسير (التحرير والتنوير؛ المعروف بتفسير ابن عاشور) لمحمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، أعيد النداء خامس مرة؛ لاختلاف الغرض والاهتمام به. وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها.

ففي قوله - تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) تأديب عظيم، يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة، والتهم الباطلة، وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة، والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا خذ اللص قبل أن يأخذك.

وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة؛ قال -تعالى-: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) "آل عمران : من الآية154"، وقال: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) "الزخرف :20". وقال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) "الأنعام : من الآية 148"، ثم قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) "الأنعام : من الآية148".

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".

ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة، فوجب التمحيص والفحص؛ لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.

والمراد بـ (الظن) هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس، وحذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم.

وجملة: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) استئناف بياني؛ لأن قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) يستوقف السامع ليتطلب البيان؛ فأعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون؛ ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم. على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم. وليس هذا البيان توضيحا لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه؛ لأنها أنواع كثيرة، فنبه على عاقبتها، وترك التفصيل؛ لأن في إبهامه بعثا على مزيد الاحتياط.

ومعنى كونه إثما أنه: إما أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدر الظان أن ظنه كاذب، ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه؛ فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة؛ من اتهامه بالباطل؛ فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم، وقد قال العلماء: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز.

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)

تعليق عبر الفيس بوك