رقائق(22)

عبدالله الحجي

جُلِبَت النفس الإنسانية على حب الدنيا وكراهية الموت، فما أن يرى المرء نور الدنيا صغيرا، إلا ويتنامى في نفسه حب الدنيا، وعشق الحياة، وفي المقابل ينفر نفور المرعَب من الموت، وكل مسببات الفناء، فإن أصابه مرض عضال سارع لعلاجه؛ بغية ديمومة الحياة، وإن همَّه خطب، عَجَّل في إزالته؛ بغية استدرار السعادة في عاجلته، فيصرف عنه المزعجات، ويجلب لنفسه كل ما يسبب له الراحة في الحياة، التي تجعله يمخر عباب هذه الدنيا بفرح وسرور، وسعد وحبور، وكل ذلك مصداق لقول الحبيب المصطفى والنبي المجتبى - عليه من الله صلاة وسلام - واصفا المسلمين يومئذ كانوا معه بقوله :"...وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال:"حب الدنيا، وكراهية الموت"، وقال تعالى:(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) (القيامة: ٢٠).

إلا أن الإنسان مع هذه الصفة الجامحة التي ينزع إليها من حب الدنيا وكراهية الموت، لابد له من ساعة نقلة من هذا الحب الطافح، والوله الجامح، والعشق المعشوق تجاه دنيا الأنام، فلا يحسب العاقل أنه باق على حبه لدنياه، فمراده بصرعة الموت مقطوع، وأمله في التعمير في هذه الحياة ممنوع، وليستقبل ما هو آت من الدار الآخرة، فكل ما هو مُقبل لا شك في إقباله، فرغم كرهه للفناء، إلا أنه ملاحق به في الديجور أو في النهار، إلى أن تحين ساعة الصفر؛ فتغرب شمسه، ويأفل نجمه، وينضم مع ركب الراحلين إلى عالم الآخرة.

ولينظر المتأمل إلى من سبقوه، ورحلوا عنه وتركوه، ممن كانوا يعشقون الدنيا عشقاً، ويودون لو أنهم يُعمَّرون فيها تعميرا، يسعون من أجل البقاء جاهدين، ولمزيد من العمر طامحين؛ والآن هم بين أطباق الثرى جاثمين.

نحبُّ الحياةَ ونهوى المُنى *** فيأتي الحِمامُ بما لا نريد

تعليق عبر الفيس بوك