حب الوطن والتعلق به فطرة إنسانية راسخة متجذرة في نفس كل إنسان

ناصر بن خلفان البادي

(قدم أصيل الغفاري إلى المدينة المنورة بعد الهجرة، فدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - قبل أن يفرض الحجاب - فقالت له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وأبيضت بطحاؤها. قالت: أقم حتى يأتيك النبي. فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق أذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: (حسبك يا أصيل لا تُحْزِنَّا)، وفي رواية: (ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها).

هذه القصة وفي هذا الموقف النبوي نلاحظ فيه حنين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- وزوجه السيدة عائشة إلى موطنهما الأصلي مكة المكرمة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها باشرت أصيل بالسؤال عن موطنها الأم مكة، ولم تسأله عن أي شيء آخر، من لهفها لسماع أخبار وطنها الذي طالما حنت إليه وهي في المهجر، وكذلك فإنّ السيدة الصديقة بنت الصديق كانت تعرف مقدار حنين زوجها النبي صلى الله عليه وسلم إلى وطنه مكة، ولذلك نرى في هذا الموقف كيف طلبت من أصيل أن يمكث حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بأخبار مكة، ولما جاء الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه باشر أصيل بالسؤال عن أخبار مكة، ولما وصف له أصيل مكة جاشت في نفسه الشريفة مشاعر الحنين والشوق إلى الوطن، فطلب من أصيل التوقف عن إثارة المواجع والأشواق الكامنة في النفس تجاه الوطن.

إنّ حب الوطن والتعلق به فطرة إنسانية راسخة أصيلة، متجذرة في نفس أي إنسان مهما كان جنسه وموقعه، وقد جاء دين الفطرة ليرعى هذه الفطرة ويحوطها بالعناية والاهتمام. وفطرة حب الوطن مغروسة في نفس أي إنسان، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا سيدنا موسى عليه السلام - كما يعرف الكل قصته - حينما خرج من مصر واغترب عنها سنين عشرا، عاد إليها بعد هذه الغيبة الطويلة بالرغم من توجسه من انتقام أهل مصر لقتيلهم. وهذا سيدنا يونس عليه السلام حينما ترك وطنه وقومه والتقمه الحوت ثم أخرجه الله من بطن الحوت ومن البحر، حرص على الرجوع إلى وطنه على الرغم من الأذى والتكذيب الذي لاقاه من قومه سابقاً. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان يظهر هذه الفطرة ويُعبر عنها في مواقف كثيرة، فحينما خرج من موطنه مكة مهاجرا بغير اختياره توقف ملتفتاً إلى مكة، قائلا بلهجة محزونة: "والله إنّك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت". ثم تركها هو وصحبه طاعة لله تعالى وليس من تلقاء أنفسهم واختيارهم، وحينما وصل النبي الكريم المدينة حرص على أن يطلب من ربه سبحانه أن يصيّـر المدينة وطناً لهم، تيقناً منه عليه الصلاة والسلام أن الإنسان لن يستطيع العطاء الكامل إلا حينما يستقر قلبه في وطن يطمئن إليه، ولذلك حرص على الدعاء بأن تصير المدينة وطناً له ولأصحابه، وإلا ظلت نفوسهم متعلقة بوطنهم مكة واضطربت قلوبهم حنيناً إلى ديارهم، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك الطلب الرائع: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد".

والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أقر هذه الفطرة البشرية، بل أقر نبيه الكريم في شوقه إلى موطنه، فطمأنه حينما خرج مهاجرا محزونا على فراق مكة وقال له: "إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" أي إنك لن تطيل الغياب عن مكة وستعود إليها في يوم من الأيام الموعودة عند الله تعالى.

لقد ربط القرآن الكريم الوطن بمعادلة رائعة جدا، وذلك حينما ساوى بين الموت وبين فراق الأوطان، في أكثر من موضع، ففي سورة النساء يقول الله تعالى مظهرا هذه المعادلة بين الوطن والحياة: "ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، وقال في سورة البقرة: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم"، فانظروا إلى هذا الربط بين الحياة وبين حب الوطن، وهذا الربط بين الموت وبين مفارقة الوطن.

إننا نستنتج إذن من النصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة ومواقف الأنبياء الكرام أن الوطنية فطرة بشرية أصيلة أقرها الإسلام في القرآن والسنة، حتى أصبحت من الأخلاق الفاضلة الممدوحة، لأنها توصل إلى خير الفرد والمجتمع.

إنّ الوطنية من الأخلاق الكريمة التي تعني إسداء الخير والنفع والخدمة للوطن والمجتمع وكف الأذى عنه. والوطنية بهذه الصورة رعاها ديننا الحنيف من خلال الآداب والأحكام والقوانين التي وضعها الإسلام، وربى عليها أفراده، واعتبرها دينا يدينون به لخالقهم سبحانه. فنحن باختصار إذا جئنا إلى أيّ أدب أو خلق رفيع أو تشريع حكيم، ونظرنا إليه من منظار المواطنة الصالحة فسنجد أنّ ذلك الأدب وذلك التشريع يصب في مصلحة الوطن. فلماذا هذا وكيف؟!

نحن نتفق جميعا أن الإسلام دين شامل متكامل جاء لبناء الفرد الصالح، هذا الفرد الصالح هو عبارة عن لبنة في بناء الإسلام العظيم، وإذا كانت اللبنات صالحة، كان البناء صالحا، وكلما زاد عدد اللبنات الصالحة كان البناء أقوى. وهكذا الحال في موضوع المواطنة، فالمواطن الصالح الملتزم بدين الله تعالى هو عبارة عن جزء من الوطن، وإذا كان هذا الجزء صالحا، فسيؤثر ذلك إيجابيا على الوطن.

وهنا سأذكر مثالا بسيطا على ما أقوله من أن جميع الأخلاق والآداب والتشريعات الإسلامية تصب في مصلحة الوطن، هذا المثال هو إماطة الأذى من الطريق، فالإسلام اعتبر ذلك قربة وعبادة يتزلف بها العبد إلى خالقه سبحانه، هذه العبادة على بساطتها وصغر حجمها إلا أن آثارها في الثواب والأجر عظيمة، وأثارها في توفير البيئة الصحية الجميلة عظيمة كذلك، هذه البيئة الصغيرة التي حرص هذا الفرد المؤمن على نظافتها وتطهيرها من الأوساخ انطلاقا من حث الإسلام، ستساهم إيجابيا في خدمة الوطن والمحافظة عليه. وقيسوا على ذلك بقية الآداب والتشريعات والأخلاق الأخرى. ومن أعظم الأمثلة كذلك على التشريعات الإسلامية التي تصب مباشرة في مصلحة الوطن، تشريع الجهاد في سبيل الله، فالإسلام يفرض على المسلمين فرضا واجبا الحفاظ على كل شبر من أراضي المسلمين وحمايتها من أي انتهاك، وهذا أعظم دليل على مشروعية خلق المواطنة بل على وجوبه في الأعناق.

ومن هنا نستطيع أن نقول إن من أعظم ما يقدمه المواطن الصالح إلى وطنه هو الالتزام بالأخلاق والآداب والقيم الإيمانية المستقيمة، وأن أي سلوك منحرف سيؤثر سلبا على الوطن ومقدراته ومنجزاته وسمعته وصورته أمام العالم. والعمل والإنتاج والتعلم من أعظم صور المواطنة الصالحة كذلك، فالأوطان لا تبنى بالجهل والكسل، وإنما تبنى وتتقدم بسواعد أبنائها الذين يتقنون أعمالهم، ويحرصون على اكتساب العلوم والمعارف والمهارات التي تطور من عطائهم.

والإحسان إلى الناس والتواضع لهم وأداء حقوقهم صورة ثالثة عظيمة من صور المواطنة الصالحة، فبر الوالدين، وتربية الأبناء تربية صالحة، والإحسان إلى الجار، واحترام الكبير، والعطف على الضعيف والمحتاج، كل ذلك يؤدي إلى تقوية أبناء الوطن، وتقوية البناء الداخلي والاجتماعي في الوطن، مما يسهم في تقدم الوطن ورفعته.

والإصلاح صورة أخرى للمواطن الصالح، فما أجمل المواطن الذي يمر في طريق ويرى فيه شيئا من الأوساخ والقاذورات، ثم ينزل ليضعها في موضعها المخصص، وما أجمل المواطن الذي يقدم لمؤسسته النقد البناء الذي لا يجرح ولا يخدش، وما أجمل المواطن الذي يرى مرفقا عاما يحتاج إلى عناية فيعتني به، وما أجمل المواطن الذي يقدم اقتراحا لحل مشكلة معينة إلى جهات الاختصاص.

وإن بلادنا الحبيبة عمان لها خصوصية تميزت بها في الإسلام، حيث أعطاها سيد البشرية أعظم وسام، وهو وسام الأخلاق الحسنة حينما قال: "لو أهل عمان أتيت ما سبوك وما ضربوك" وأثنى على أهلها ودعا لأرضها، وقد دخل أهلها في دين الله طوعا، فأصبحت محضنا للإسلام، ومأرزا للعلم، وقبلة للمجد والشرف عبر تاريخها الطويل، ومن هذا الأصل فإن المواطن العماني يحمل مسؤولية كبيرة وأمانة عظيمة في تقديم أروع نماذج المواطنة الصالحة، التي تتمثل في أخلاقه السمحة الكريمة، وفي خدمته للناس، وفي تفانيه في عمله واستثماره لوقته، وفي رفعه الأذى والضرر عن الناس كلما وجدت أسبابه، وفي طلبه للعلم وتنمية قدراته ومواهبه وتسخيرها لبناء الحضارة.

تعليق عبر الفيس بوك