البلسم الشافي 16 (الجزء الثالث)

حمد الحوسني *

أيُّها القرَّاء الأكارم، ما زلنا بصدد معالجة مشكلة "سوء الظن، والتشكيك في نيات الآخرين" المنتشرة في مجتمعاتنا؛ من خلال ذكرنا لكلام جماعة من المفسرين حول قول الله -تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم"؛ التي تناولت هذه القضية، وعالجتها من جذورها.

جاء في تفسير ابن عجيبة: ((يقول الحق -جل جلاله-: "يا أيها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً من الظن"؛ أي: كونوا في جانب منه، يقال: جنَّبه الشر إذا أبعده عنه، أي: جعله في جانب منه، و"جنّب" يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ" (إبراهيم: 35)، ومطاوعه اجتنب، ينقص مفعولا، وإبهام "الكثير" لإيجاب التأمُّل في كل ظن، حتى يعلم من أي قبيل هو، فإن مِن الظن ما يجب اتباعه؛ كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظن بالله -تعالى-، ومنه ما يُحرم، وهو ما يُوجب نقصا بالإلهيات والنبوات، وحيث يخالفه قاطع، وظن السوء بالمؤمنين، ومنه ما يباح، كأمور المعاش.

"إِنَّ بعض الظن إِثمٌ".. تعليل للأمر بالاجتناب، قال الزجاج: هو ظنك بأهل الخير سوءاً، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر عليهم، وقيل المعنى: اجتنبوا اجتناباً كثيراً من الظن، وتحرّزوا منه، إن بعض الظن إثم، وأَوْلى كثيرُه، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث"، فالواجب ألاَّ يعتمد على مجرد الظن، فيعمل به، أو يتكلم بحسبه.

قال ابن عطية: وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن، ويجتنبون ذرائعه. قال النووي: واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدّث غيرَك بمساوئ إنسان؛ يحرم أن تُحدِّث نفسك بذلك، وتسيء الظن به، والمراد: عقدُ القلب وحكمُه على غيره بالسوء، فأما الخواطرُ، وحديثُ النفس، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه، فمعفو عنه باتفاق؛ لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. ه. وقال في التمهيد: وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حرّم الله من المؤمن: دمَه ومالَه وعِرضَه، وألا يُظنَّ به إلا الخير" ا.هـ.

ونقل -أيضاً- أن عُمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكر عنده رجل بفضل أو صلاح، قال: كيف هو إذا ذُكر عنده إخوانُه؟ فإن قالوا: ينتقص منهم، وينال منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإن قالوا: إنه يذكُرُ منهم جميلاً، ويُحسن الثناء عيلهم، قال: هو كما تقولون إن شاء الله. ا.هـ.

وفي الحديث أيضاً: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير، حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله ")).

وجاء في تفسير "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" للحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري: ((قوله: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ" فيه تأديب آخر. ومعنى اجتنبوا: كونوا منه في جانب. وإنما قال كَثِيراً ولم يقل الظن مطلقا لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". وقال: "إن حسن الظن من الإيمان". ولكلامه تتمة إن شاء الله تعالى.

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)

تعليق عبر الفيس بوك