غسَّان كنفاني وفلسطين

عهود الأشخرية

لا أعظم من تعريف غسان كنفاني للوطن حين قال في روايته (عائد إلى حيفا): "هل تعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث ذلك كله"! لقد مرّ تاريخ البشرية محملا بذنوبهم من قتل ودمار واضطهاد وانتهاك للإنسانية منذ الأزل حتى يومنا هذا الذي وصلنا فيه ألا نأمن المكان الذي يفترض أن يكون آمنًا وهو المسجد. أتذكر حينَ كانت قضيتنا الوحيدة فلسطين البعيدة القريبة من القلب وها قد صارت قضايانا الآن منعكسة من تلك القضية، حين لم ترحل طيورنا لفلسطين انعكست جراحها المكشوفة فينا حتى مع اختلاف الأسباب والمراحل والأحوال. يبقى القاسم المشترك أن الجرح سيبقى مفتوحا إلى حين. الجرح الذي ربَّته الطائفية كثيرا، هذا الأمر الذي كان يرفضه غسان رفضا تاما وكتب في ذلك الكثير منها حين قال: "إننا نقف مع الإنسان لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر"، لكننا اليوم نتقاتل لأنّ الآخر ينتمي لطائفة أخرى غير التي أنتمي إليها!.

ولأن في هذه الأيام ذكرى الراحل غسان كنفاني كان علينا أن نتذكره كثيرا، ونتذكر فلسطين أكثر وأكثر، فبعد مضي زمن طويل على رحيل هذا الرمز الخالد؛ يبدو حاضرا كثيرا في آلامنا وقضايانا اليومية، حاضرا كأيقونة نضالية وثقافية فكرية لفلسطين وما حول فلسطين، وخلال فترة حياة غسّان جعل من فلسطين رمزاً لعذابات الإنسان الدائمة من خلال رواياته ومسرحياته وكتاباته القصصية وأبحاثه؛ ذلك أن غسّان حول مصير الإنسان الفلسطيني إلى أيقونة للجحيم الذي كان عصارة لكل آثام البشر وحناجرهم الملوثة، أيقونة للصراع الذي لا يتوقف. وحقًا أيها الراحل "يبدو أن هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل"، لكنهم باقون هنا، بكلّ ما خلدوه من رفض للبقاء في عداد الذين لم يحركوا ساكنا، أولئك الذين ماتوا خائفين من كل شيء، أو أولئك الذين لم يدركوا الطريق الحق في الحفاظ على قضاياهم في الوجود، فــ "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية".

غسان كنفاني الذي غادر عكا طفلا، وقضى حياته بين دمشق والكويت وبيروت، كان يدعو دائمًا إلى التمرد ضد النماذج المستهلكة والمتشابهة من البشر، كان يطلق الثورات بقلمه ويترك صراعات كثيرة في كتبه، فهل تهدأ اليوم كتب غسان؟ تلك التي كان يطرح فيها أسئلته الدائمة عن الوجود الإنساني، عن الولادة والموت، والرحلة والمصير المرتبط دائماً بوجود النهاية الجاهزة.

وأما عن غسّان في (عائد إلى حيفا)، هذه الرواية التي كانت بمثابة مرجع أساسي في معنى الهوية والانتماء والتي تؤكد أن الإنسان ليس سوى قضية، الرواية التي تحكي قصة خروج أبوين من حيفا في أحداث 1948، وعودتهما لنفس المكان بعد عشرين عامًا، إلى منزلهما أو ما تركاه خلفهما للرصاص والدمار، في النهاية لحظة الوصول إلى حيفا، كان المنزل تقطنه امرأة يهودية وابنها بالتبني -أو بالأحرى السرقة)، الذي تحول تحولا كبيرا حين أصبح جنديا يخدم الجيش الإسرائيلي، أعظم درس يُريد أن يعلمه غسان كنفاني للبشرية أجمعها: أن الذي يتخلى عن أشيائه لا يتوقع أن يجدها مجددا، لقد كانت هذه الرسالة بمثابة رمز للجرح الذي لا يشفى.

ويؤكد غسان دائما أنه لا مهرب من القدر، لكنه أيضا كائن في صراع دائم لأنه يريد للإنسان أن يتخذ مصيره بنفسه، أن يرسم حياته وفق قدرته على الثورة أو الهرب، كما وضع ذلك نصب عينه في روايته رجال في الشمس التي تم أخذها في فيلم (المخدوعون)، وقبل الدخول في تفاصيل هذا الفيلم، يربط غسان كنفاني حياة البعض بالشريط السينمائي القديم حين يقول "أتعرف شيئا.. إن حياة بعض الناس كالشريط السينمائي العتيق الذي تقطّع، فوصله فنان فاشل من جديد بصورة خاطئة.. لقد وضع النهاية في الوسط ووضع الوسط في النهاية".

وأما عن فيلم المخدوعون للمخرج الراحل توفيق صالح، فهو يتناول قصة ثلاثة فلسطينيين (أبو قيس، وأسعد، ومروان) وهم ثلاثة أجيال مختلفة، ومهرّب فلسطيني هو (أبو الخيزران)، والأخير عرض عليهم طريقة للهرب من الوضع آنذاك بأن يهربهم إلى الكويت في خزان ماء فارغ، وافق الثلاثة على أمل في النجاة رغم خوفهم الكبير من الطريقة، مضت أحداث الفيلم حتى كانت النهاية مؤلمة بموت الثلاثة المهرّبين وذلك لأسباب غير متوقعة في اجتياز الحدود إلى الكويت، الفيلم يضم الكثير من الرموز والكثير من القضايا التي تخص الجرح الفلسطيني وبريق الضوء القادم من مكان بعيد.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك