البلسم الشافي 15 (الجزء الثالث)

حَمَد الحوسني *

أيُّها الفضلاء، إنَّ حُرمة المسلم عند الله عظيمة جدًّا؛ فلا يعتدى على نفسه ولا عرضه ولا ماله. ويجب أن يحسن فيه الظن ما لم يكن هنالك دليل قاطع لا شك فيه يدل على خلاف ذلك.

وقد عالجنا في الحلقات الماضية موضوع "سوء الظن.. والتشكيك في نيات الآخرين"؛ من خلال ذكرنا لكلام جماعة من المفسرين حول قول الله تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم"؛ التي عالجت هذه القضية من أساسها. وما زلنا نواصل ذلك.

جاء في تفسير "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (بتصرف بسيط):

(("يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ".

يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين. قال الله عز وجل: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ". ثم يقال في مطاوعه: اجتنب الشر؛ فتنقص المطاوعة مفعولا. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن، وذلك البعض موصوف بالكثرة: ألا ترى إلى قوله: "إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ"؟ فإن قلت: بَيِّن الفصل بيْنَ كَثِيراً، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين؛ لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتفكر، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر؛ ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظن منوطا بما يكثر من دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظن متصف بالكثرة مجتنبا، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر: كان حراماً واجب الاجتناب؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر؛ فظن الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهره الناس يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث. عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء".

وعن الحسن: كنا في زمان الظنُّ بالناس حرام، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت، وظنّ بالناس ما شئت. وعنه: لا حرمة لفاجر. وعنه: إن الفاسق إذا أظهر فسقه، وهتك ستره هتكه الله، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب.

وقد روي: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له.

والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. ومنه قيل لعقوبته: الأثام، فعال منه: كالنكال والعذاب والوبال، قال:

لَقَدْ فَعَلَتْ هاذِي النَّوَى بِيَ فَعْلَة...

أَصَابَ النَّوَى قَبْلَ المَمَاتِ أَثَامُهَا

والهمزة فيه عن الواو، كأنه يثم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه)).

وقد أوردنا في لقائنا الماضي تعقيب أبي حيان في تفسيره "البحر المحيط"، على كلام الزمخشري؛ حيث قال: "وقال الزمخشري: والهمزة فيه بدل عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي يكسرها بإحباطه، وهذا ليس بشيء، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول: أثم يأثم فهو آثم، والإثم والآثام، فالهمزة أصل وليست بدلا عن واو. وأما يثم فأصله يوثم، وهو من مادة أخرى".

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)

تعليق عبر الفيس بوك