رقائق "20"

عبدالله الحجي

هل رأيت مدينة أهلها لا يتزاورون، كل جار لصيق الآخر إلا أن كل واحد مشغول بعالمه الذي آل إليه، حقا إنها عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. عندما يبصر القبور الدارسات، وكان يعرف خبرهم أنهم في دنياهم لا يفترقون، متواصلون فيما بينهم، لا تفرِّقهم إلا مضاجع نومهم، إلا أنّهم بعدما استحالوا إلى موات لا حراك، أصبح كل واحد لا يعلم بحال جاره، ولا يسأل عنه، ولا همَّ له إلا نفسه التي عرفت مصيرها، بعدما استنفذت رصيد مسيرها من هذه الدنيا الفانية.

إنّ المرء في هذه العاجلة قد يجد المعين الذي يعينه على نوائب الدهر، وقد يجد صاحب اليد البيضاء؛ لتخلِّصه من قبضة الفقر، ومستنقع الحاجة، وقد يجد من يؤيده في أفكاره، ويسايره في تصرفاته، إلا أنه ما أن يزور المقابر مع مَنْ زارها، إلا وتتقطع الوشائج والروابط فيما بينهم، فقد يدفن الأخ بجوار أخيه الذي يُكنُّ له وافر المحبة الجامحة، وقد تُقبرُ البنت بجوار أمها التي تضمر لها بين جوانحها عاطفتها الطافحة، وقد يوارى الحبيب بجوار حبيبه، والقريب بجوار قريبه، وهم لا يعلمون، ولا يشعرون بوصل القربى التي كانوا يحرصون عليها أيما حرص في دنياهم. فليت شعري كيف حالنا، وقد جثمت علينا صحائف الأحجار. فالرحمة الرحمة.

فلو ناداهم منادٍ أن هلموا إلى لم الشمل، واجتماع الصف لما استجابوا، وما سمعوا، وكيف يستجيبون(وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(فاطر: ٢٢). فحقاً إنهم جيران لا يتزاورن، وقربى لا يتعارفون، قد صرعتهم الأجيال فلا سيل للقيا في هذه الفانية ولا مجال.

يا جيرةَ الموتِ ما فيها مجاورةٌ *** رغمَ اجتماعٍ ورغمَ القُربِ في الجَدَثِ

الدهرُ جمَّعهمْ والحتفُ فرَّقهمْ *** أعظِمْ بفرقَتهمْ أعظِمْ بذا الحَدَثِ

تعليق عبر الفيس بوك