قيام الليل.. دأب المتقين وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين

جمعة بن خلفان البطراني

قيام الليل هو دأب المتقين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين؛ ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجَّهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات.

وقد وصفَ الله سبحانه المؤمنين بقوله: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ"، قال الإمام القطب في تيسيره: والتجافي التباعد جدًّا، والجنب الشق الأيمن والشق الأيسر؛ لأنَّ الغالب النوم عليهما لا على الظهر، ولا على البطن، وإن شئت فكأنَّ جنوبهم جفت المضاجع، كأنها تعاديها، والمضاجع مواضع الضجع أي الامتداد للنوم، وذلك كناية عن ترك النوم إلى الاشتغال بصلاة النفل ليلا.

بل إنَّه سبحانه بيَّن أنَّ المؤمنين حالهم الاستغفار للواحد القهار؛ فيقول: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ".

وقد رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- وحث أمَّته على قيام الليل؛ فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".

أبو عبيدة عن جابر بن زيد، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالليل ثلاث عشر ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.

وعن سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- عن أبيه، أنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم- قال: "نعم الرجل عبداللَّه لو كان يصلي من الليل"، قال سالم: فكان عبداللَّه بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.

وقد كان السلف الصالح شغوفا بقيام الليل، بل عدوا من لم يقم الليل أنه أذنب ذنبا منعه عن قيام الليل؛ فهذا الحسن البصري يقول: "ما ترك أحد قيام ليلة إلا بذنب أذنبه، وتفقدوا أنفسكم عند كل ليلة عند الغروب، وتوبوا إلى ربكم لتقوموا الليل"، ويروى عنه أنه قال: "لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل؛ فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره".

اعلم أخي المسلم الصائم -وفقني وإياك لطاعته- أنَّ المحافظة على صلاة الليل سبب لحضور القلب بين يدي الله تعالى وبكائه وتأثره بآي الذكر الحكيم، وأنا أدعوك أخي الكريم إلى أن تجرب قيام الليل وتذوق حلاوة المناجاة، ولقد جربنا أشياء كثيرة في حياتنا كاللهو واللعب والسهر؛ فلنجرب قيام الليل ومناجاة الله السميع العليم، واعلم أن قيام الليل دليل على حب الله للعبد؛ فمن وفقه الله وأعانه على قيام الليل فإن هذا يعني أن الله تعالى يحبه، ولقد جاء في الأثر: "إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك".

آداب قيام الليل

يُسنُّ لمن أراد أن يقوم الليل ما يلي:

1- أن ينوي عند نومه قيام الليل؛ فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.

2- أن يمسح النوم عن وجهه عند الاستيقاظ ويتسوك وينظر في السماء ثم يدعو بما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور".. ثم يقرأ الآيات العشر من أواخر سورة آل عمران، ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيِّم السماوات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت الله لا اله إلا أنت".

3- أن يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ثم يصلي بعدهما ما شاء.

4- أن يوقظ أهله، حتى يعبدوا الله معه، كما كان يفعل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خاصة في العشر الآواخر من شهر رمضان المبارك.

5- أن يترك الصلاة ويرقد إذا غلبه النعاس حتى يذهب عنه النوم.

6- ألا يشق على نفسه، بل يقوم الليل بقدر ماتتسع له طاقته، ويواظب عليه ولا يتركه إلا لضرورة.

وقت قيام الليل

سُئل سماحة الشيخ الخليلي -حفظه الله تعالى- عن ذلك، فأجاب بقوله: "قيام الليل هو التهجُّد، ويبدأ من منتصف الليل إلى ما قبل بزوغ الفجر، وقيل بل هو من بعد صلاة العشاء مباشرة والله أعلم".

وتجوز صلاة الليل في أول الليل ووسطه وآخره مادامت الصلاة بعد صلاة العشاء، ولكن الأفضل تأخيرها إلى الثلث الأخير من الليل.

واعلم أخي الكريم -هداني الله وإياك- أنَّ هناك جنة في الدنيا، كما أن هناك جنة في الآخرة، وجنة الدنيا هي قيام الليل، والخلوة بالرحمن سبحانه وتعالى، بل إنها أفضل من الدنيا وما فيها كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم، أسأل الله أن يوفقنا إلى طاعته والسعي على مرضاته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

------------------------

المراجع:

1- الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب.

2- تيسير التفسير، للعلامة قطب الأئمة محمد بن يوسف أطفيش.

3- فتاوى الصلاة، سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي.

تعليق عبر الفيس بوك