الهند "أمة من العباقرة"!

عبيدلي العبيدلي

"لم يكن حلمه قاصراً على جعل الهنود يكرسون وقتاً أكبر للاشتغال بالعلوم، بل أن يفكروا أيضاً بطريقة أكثر عقلانية في حياتهم اليومية. فقد كانت الهند دولة متدينة بعمق، ومعدلات الأمية مرتفعة فيها، وأعداد غفيرة من السكان يؤمنون بالخرافات تماماً، كما كانت حالهم قبل القرون الوسطى. ولم يكن شاذاً بالنسبة الى الناس أن يعتقدوا في الاستشفاء بالغورو (المعلمين الروحانيين) أكثر من اعتقادهم في الأطباء البشريين وأطباء الأسنان، أو حتى أن يضعوا قراراتهم المصيرية بين يدي أحد العرافين".

هذا مقتطف من كتاب "أمة من العباقرة"، الذي حاولت فيه الصحافية (Angela Saini)، أن تسبر غور التجربة الهندية الحديثة التي حولت الهند إلى رقم صعب في المعادلة الدولية للتقدم العلمي، والذي ترجع فيه المؤلفة فضل وصول الهند إلى ما وصلت إليه اليوم، وما حققته من إنجازات متقدمة يعترف بها العدو قبل الصديق، إلى قائدها جواهر لال نهرو. كان نهرو الذي أصر يومًا ما على تغيير الأوضاع في الهند نحو الأفضل، ينطلق من إيمانه العميق "بأن من حق الهند أن تكون لها حركة التنوير الخاصة بها، تماماً مثل أوروبا، لتقضي على هذا الوباء من الخرافات وتستبدله بالمنطق والفكر السليم".

ولعل شغف نهرو بالعلم، وإيمانه به كوسيلة لانتشال أمة من براثن الفقر والجهل إلى مصاف الأمم المتقدمة هو الدافع وراء تحاشيه تنصيب نفسه قائدا للقوات المسلحة، ويختار عوضا عن ذلك منصب رئيس مجلس مركز "الأبحاث العلمية والاقتصادية الهندي".

لكن ما كان يؤمن به نهرو ويبشر به في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، لم يكن بعيدًا عما يدعو له الملياردير الهندي المعاصر، ومؤسس شركة البرمجيات الهندية الناجحة إنفو سيس (Infosys)، ناريان مورثي الذي قابلته أنجيلا في رحلتها التي شملت العديد من المراكز العلمية الهندية وشركات التقنية الناجحة فيها، فيبادرها بالقول " إننا أبناء ثقافتين نعمل في العالم الثالث، ونحاول أن نرضي أكثر زبائن العالم الأول طلباً وإلحاحًا. نعيش في عالم بنغلور البائس، ونمر في طرقها، ثم نمر عبر الطرق السريعة الواسعة".

يشخص مورثي الواقع الهندي المتناقض في شكله، لكنه المتكامل في أدائه، بكثير من الشفافية والدقة. فالهند دولة مكتظة بالسكان الذين يصل عددهم اليوم إلى حوالى 1.2 مليار نسمة، تتفشى في أوساطهم الأمية بدرجة عالية تبلغ 60%. لكن مقابل ذلك هناك ما يربو على " 400 جامعة تفرز مليوني خريج كل عام من ضمنهم عدد مذهل من المهندسين قوامه 600 ألف مهندس، والأشد رواجًا من بين هؤلاء هم خريجو المعاهد الهندية للتكنولوجيا وعددها 16 معهدًا".

وهذا أهّل الهند لتحصد ما زرعه زعيمها نهرو فأصبحنا اليوم، نشهد، كما تقول مؤلفة الكتاب أنجيلا "أن واحداً من كل خمسة من العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في المملكة المتحدة هو من أصل هندي. وأن واحداً من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة من أصل هندي. بل هناك من يذهب في الإحصاءات إلى أنه مع مطلع الألفية الجديدة كان ثلث المهندسين العاملين في منطقة وادي السيليكون هم من أصل هندي. ويدير الهنود 750 شركة من الشركات التقنية في أمريكا".

وربما من المفارقات التي تكشف عنها الهند، أنه على الرغم من كونها، كما تعتبرها أنجيلا " الأكثر تدينًا على وجه الأرض"، لكنها في الوقت ذاته من أشد دول العالم تعطشا "إلى الإيمان بالعلوم والتكنولوجيا".

ومثلما خلقت أحلام نهرو، المستلهمة من إيمانه بالعلم، من الهند أمة تمد العالم المتقدم بجيوش من المهندسين والعلماء، يساهمون في تقدم العالم ويبنون حضارته، دون أن يغفلوا، كما تقول أنجيلا عن مسؤوليتهم الوطنية الهادفة إلى مواصلة عملهم المضني للنهوض بالهند وانتشالها من أمراض الفقر والمرض والجهل، كذلك كرست ذهنية القادة العرب التي تستمد ديمومتها من خلفية قبلية عشائرية متحجرة، كل عوامل التخلف بالمعنى الواسع الشامل لكلمة التخلف.

وبينما يفسر كل هذا التقدم الذي حققته الهند، ما جاء في دستورها الذي يكاد أن يكون "شبه الوحيد بين دساتير دول العالم الذي يحوي نصاً قانونياً يعلن فيه أنه (يجب على كل مواطن هندي أن يشارك في تنمية الفكر العلمي)"، يفسر أيضًا التخلف العربي الذي يصر على استمرار حروب داحس والغبراء، هذه الحروب العبثية التي ما تزال مستعرة على الأراضي العربية، كي لا نقول الدول العربية، حيث لم نصل بعد إلى المستوى الحضاري الذي يؤهلنا لبناء دول بالمعنى المعاصر الصحيح لها.

تحضرني، وأنا أعرض كتاب أنجيلا سايني "أمة من العباقرة: كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم"، مقالة منصور خيري المعنونة "عبقر الهندي"، التي أورد فيها في سياق مراجعته للكتاب ذاته أن "كلمة عبقرية التي وصفت بها أنجيلا سايني الهند مشتقة من كلمة عربية هي وادي عبقر ملهم الشعراء والمبدعين في تاريخنا. ونحن كعرب أولى بهذا الوصف لو كنا جديرين بالميراث، لكن الفارق هائل وحاسم بين الابن والوريث والنار كما يقال قد تخلّف رمادا.

وبعيدا عن مدى دقة أصول كلمة "عبقري"، علينا أن نعترف أنه بينما تتقدم الهند كي ترسخ نفسها رقمًا صعبًا في معادلة العلاقات الدولية، يتخلف العرب كي يقبعوا في مواقعهم التي لا تتجاوز دور المتلقي الخنوع لفضلات الصراعات الدولية.



تعليق عبر الفيس بوك