البلسم الشافي (الجزء الثالث) (12)

حمد بن عبد الله بن محمد الحوسني*

أعزائي الكرام، لقد ذكرنا في بعض لقاءاتنا الماضية أن العلماء والباحثينالمسلمين الذين أفرطوا في موضوع الإعجاز القرآني العلمي، وحاولوا إيجاد سند من القرآن الكريم لكل نظرية علمية، لا يمكن التشكيك في نياتهم؛ فالمسلم يجب أن يحمل على أحسن المحامل، ولا بد أن تلتمس له الأعذار، ولا يصح أن يقذف بالتهم أو أن يساء الظن به هكذا من غير دليل بين واضح؛ فوقوع الخطأ لا يقتضي بالضرورة أن يكون صادرا عن سوء قصد ونية من فاعله.

نعم الخطأ لا يقر بحال، والحق أكبر من كل كبير، وأعز من كل عزيز، وأجل من كل جليل، وأعظم من كل عظيم، ولكن ليس معنى ضرورة إقرارنا للصواب، ودحضنا للخطأ أن نشكك في نية من صدر عنه ذلكم الخطأ، فهم -وإن كانوا قد أخطأوا المنهج، وجانبوا الصواب- قد صدر عنهم ذلك الأمر بحسن نية، ومحاولة منهم لإقناع الناس بإعجاز القرآن الكريم، وأنه كتاب منزل من عند الله-تعالى-؛ من خلال سبقه للعلوم والمكتشفات الحديثة.

ولا زلنا في لقائنا هذا نواصل ذكر تفاسير العلماء حول قول الله -تعالى-: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)؛ لنعالج مرض (سوء الظن، والتشكيك في نيات الآخرين) المنتشر في مجتمعاتنا؛ لما لترك علاجه من أثر سلبي بالغ على الأفراد وعلى العلاقات الاجتماعية بمختلف مستوياتها وعلى كيان الأمة ووحدتها وقوتها.

يقول الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب": [في قوله - تعالى-:(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم) لأنّ الظن هو السبب فيما تقدم، وعليه تبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح، والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيبا فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا، وقوله كثيرا إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ظنوا بالمؤمن خيرا".

وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين، فالظن فيه غير مجتنب؛ مثاله: حكم الحاكم على قول الشهود، وبراءة الذمة عند عدم الشهود، إلى غير ذلك. فقوله:(اجتنبوا كثيرا)، وقوله -تعالى-: (إن بعض الظن إثم) إشارة إلى الأخذ بالأحوط، كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.

ثم قال -تعالى-: (ولا تجسسوا)؛ إتماما لما سبق؛ لأنه -تعالى- لما قال: (اجتنبوا كثيرا من الظن) فهم منه أن المعتبر اليقين؛ فيقول القائل: أنا أكشف فلانا؛ يعني أعلمه يقينا، وأطلع على عيبه مشاهدة؛ فأعيب؛ فأكون قد اجتنبت الظن؛ فقال -تعالى-: (ولا تتبعوا الظن، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس).

وفي تفسير (أنوار التنزيل) للبيضاوي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل؛ حتى يعلم أنه من أي القبيل؛ فإن من الظن ما يجب اتباعه؛ كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظن بالله -سبحانه وتعالى-، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية.

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو؛ كأنه يثم الأعمال أي: يكسرها.

ولا زال الحديث متواصلا حول هذا الموضوع المهم بمشيئة الله تعالى.

* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة