نظرات فاحصة (2) الوزير الإنسان


د. صالح الفهدي

حين ذكر أحد الوزراء، سألته عمّا يميّزه إجمالاً، فقال: إنسانيته. استوقفتني هذه الكلمة لأنها أصلُ التعامل الإنساني بين البشر، فإن شابها الفتورُ أو الضعف توتّرت العلاقات الإنسانية، وإن أحسنت العطاء، وأجادت السخاء كانت العلاقة في أوجها رقيّاً، ونقاء.

فالوزيرُ قائد، والقائد تميّزه الإنسانية بحكمِ قيادتهِ للبشر، فإن كان ذا فطرةٍ إنسانيةٍ نبيلة أدركَ معنى هذه القيمة الرفيعة، وإن تعجرفَ وصلفَ طبعه طوّحَ بهذه القيمة في الوحل وعدّها من التوافهِ التي لا يؤبهُ بها، ولا يُلقى لها بالاً!

... إنَّ بعضَ الطباعِ تُظهِرُ إلى أيّ مدى تتمتع شخصية الوزيرِ بسماتِ القيادةِ التي ترتكزُ على الإنسانية، فإن كان الوزيرُ متغطرساً في إدارته، مندفعاً في قرارته فقد أسقطَ سمة الحكمةِ وفضيلة الإتزان في شخصيتهِ، لأن "الأنا" عالية لديه؛ ولهذا نظر إلى المنصبِ على أنّه أداةُ قمعٍ، ووسيلة طاعةٍ وسمع. وهنا؛ فإنَّ الوزيرَ يصبحُ رهينَ الكبرياءِ الذي تهيّأ له في كرسيّهِ الوثير فينسلخُ عن ذاتهِ السامية إلى الذاتِ المتباهيةِ المتعالية، فإذا بقرارتهِ لا تعبّرُ عن رشدٍ بقدرِ ما تعبّرُ عن اندفاعٍ وتسرّع!

إنْ جاءَ الوزيرُ إلى الوزارةِ حديثاً؛ فوضعَ في ذهنه أولوية التخلص من المقرّبين لسلفهِ بدلاً من تركيزهِ على أعمالِ الوزارةِ فذلك رجلٌ غارقٌ في الذاتيةِ، منغمسٌ في الشَّخصانية، قصيرُ النّظرِ، إلاّ إن كان السلفُ قد استبدَّ وظلم وطغى فساعدتهُ زمرةٌ من البطانةِ على تعميق جذور الاستبداد، أمّا إن كان مجتهداً، متفانياً فلا حقَّ لخلفهِ في اقتلاعِ الخبراتِ لغيرِ سببٍ ظاهرٍ، ودليلٍ بيّن، وحرمانِ وطنٍ من مسارٍ تنموي واعدٍ بالإزدهار.

حداثةُ الوزيرِ في الوزارةِ لا تجعلهُ في منزلةِ المقيّمِ العادلِ على أداءِ موظّفيهِ حتى يرقّي، ويعزل، وينقل، فإن فعلَ ذلك أقام الحجّة على نفسهِ في رعونة القرار، وسطحيةِ الرؤية؛ فالإنسانية تمنعُ الوزيرَ من تغيير المسارِ الوظيفي لموظفٍ خَبَرَ عمله، وأخلصَ فيه جهده. غير أن الوزيرَ إن تركَ الأمور مستقرّة، جامدةً دون حراك أمداً طويلاً، خثّر الدماءَ في وزارته، وأسلمها للبلادةِ والتواني، فإذا باليأسِ يدبُّ في أروقةِ الوزارةِ فيبطيءُ حركتها، وإذا بمعنويات الموظفين قد أُحبطت لطولِ ما أمّلوا أنفسهم بالتغيير حتى طال عليهم الأمد، فاستسلموا لمصيرهم، أو بحثوا على بديلٍ آخر!

أمّا الوزير الحكيم، فذلك الذي يضع نفسه بين التهوّرِ والتواني؛ فيدرسُ كل حالةٍ، وينظرُ في كل طبيعةٍ فيتعرّف على القدراتِ والإمكانيات فأعظمُ إنجازٍ للقادة هو بناءُ البشر وليس بناء الصروح.

لقد رأيتُ من المسؤولين الذين تركوا مناصبهم وقد خلّفوا صفوفاً خلاّقة من المسؤولين يذكرونهم بإجلالٍ، ورأيت من خلّفوا الإحباطاتِ والتراخي والشلل ورائهم!

ليس من الإنسانية أن يكره الوزير سماع صوتٍ إلاّ صوته؛ فإن تحدّث كرِهَ أن يقاطعهُ أحد لأنّه هو اللّسن المفوّه الذي لا يفوقه متحدّث..! وإن أمرَ ووجّه فلا يجبُ أن يعارضهُ معارضٌ لأنّ توجيهه الصواب، وأمرهُ المُجاب..! فإذا تجرّأ عليهِ ناصحٌ بإخلاصِ النصيحةِ أسكنه المكانةَ البارزةَ في ذهنهِ، تلك المكانة التي تضم عريضة المخالفين للتخلصِ منهم في أول فرصةٍ سانحة..! يقول(Albert Schweitzer): "الإنسانية هي ألا يتم التضحية بإنسان في سبيل غاية".

أمّا الوزير الإنسان، فهو ذلك الذي يقدّر للبشرِ عقولهم، وحنكتهم، ونظراتهم، فلا يقطعُ أمراً دون أن يستشيرَ المعنّي بالأمر، ولا يبتَّ في القرارِ دون أن يتدبّر عواقبه بطلبِ النصحِ من أهل التجربةِ والداريةِ من المستشارين أو أصحاب الخبرات المشهودة.

... إنَّ الوزيرَ إن لم يَرَ إلاّ نفسه، ولم يسمع إلاّ صوته ضلَّ وأضل..! لأنه القائدُ الذي يختمُ الأمرَ بختمه، وينهي المسائلَ بكلمته..! حين يضلُّ الوزيرُ يؤخرُ وطناً عن التنمية والتطوير، أمّا حين يرشدُ الوزير فإن يدفعُ وطناً للإزدهارِ والتقدّم.

ولا تهدأ آذانُ الوزيرِ من غيبةٍ هذا، ونميمة ذاك، وكلّها وشاياتٌ لا تستندُ في لحظتها إلى برهان، فإن كان الوزيرُ ممن تميلُ بهم الأهواء مال إليها وصدّقها وبنى على أساسها الواهي قراراً حازماً، وأعتقاداً جازماً..! وإن كان ممن يردُّ الأمور إلى أصولها، والأسبابَ إلى معينها، بادرَ إلى تقصّي الحقيقة، وكشفِ الساعين إمّا إلى إظهارها أو إلى تزييفها فاتخذ فيهم ما يجعلهم عبرةً لغيرهم من الذين تسوقهم الأحقاد، وتدفعهم الأطماع كي يتسلّقوا على أعناقِ البشر..! الإنسانية تحتّمُ على الوزير التريّث في الحكمِ، والتعقّل في الجزم، والابتعادِ عن الظنّ، والسلامةِ من الإدانة، دون دليل أو إبانة.

الوزيرُ الإنسان هو الذي يقدّرُ مستحقّ التقدير ممن ثابرَ واجتهدَ مخلصاً، يحفّزهُ على أدائه، ويكرمه على عطائه، ويساندهُ في اجتهاده، فإن "أكبر حاجة في الطبيعة الإنسانية هي الحاجة إلى التقدير" كما يقول(William James).

فإن قدّر الوزير موظفيه لإنسانيتهم أحبّوهُ وأطاعوه، وإن هو تجرّدَ من إنسانيته النبيلة احتقرَ جهدَ المخلصِ، واستهزأ بعمل المثابرِ، وأساء إلى موظفيه الكبار فلا يراهم أمامه إلاّ أقزاماً، يقدّم عليهم أغراراً مداهنون، لا يرون فيه إلاّ زيف حاجاتهم، ورخيص آمالهم، فإذا بالكفاءاتِ تتطاير مستنفرةً كالطيورِ من أعشاشها، وإذا بالطاقات المبدعة تتوارى كالنسورِ الشائخة في أوكارها.

الوزير الإنسان هو الذي يُعزّز الثقةَ في موظفيه كي يبدعوا وينتجوا، ويعظّم فيهم الولاء الوظيفي بما يبثّه في قلوبهم من كلمات التكريم، وعبارات التحفيز، فإن أسوأ ما يكون في الوزير تسفيه الناس، كما يقول(Erich Fromm) "لا شيء أكثر تأثيرا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من إقناعه بأنه تافه ورديء". وهذه الخصِّيصة لا تنشأُ في قلبِ الوزير، إلا إن كان ضعيف الثقةِ في نفسهِ، يُسيءُ الظنَّ بالآخرين، حينها لا تقنعه إجابتهم مهما كانت سديدة، ولا تشفي غليله آراؤهم مهما كانت ثاقبة.

الوزيرُ الإنسان ليّنٌ في غير ضعف، حازمٌ في غير قسوة؛ فالاعتدالُ عنده سمة، والاتزانُ لديه خصلة، يلينُ القولَ، ويبشُّ الوجه، فلا يجدُ العاقل ذاك منه ضعفاً وإنّما دماثةً ورفعة، ويثبتُ على الأمرِ، ويركنُ إلى الحزم فلا يُرى ذاك فيه غلاظةً وفظاظة وإنما واجبٌ للضبطِ، والتزامٌ بالإحكام. التوازنُ هو المعيار المثالي للإنسانية إذ أن "عظمة النفس الإنسانية في قدرتها على الإعتدال، لا في قدرتها على التجاوز" كما يؤكد(Blaise Pascal).

لا غنى للوزير الإنسان عن العدل فهو أُسُّ الوزارةِ، فإن عدلَ فقد أنصفَ وطنه، وإن هو طاش وتعسّف فقد أساءَ إلى نفسهِ قبل أن يخطأ في أمانته. العدلُ ميزانُ الله في الأرضِ من وزنَ به منصفاً فلح، ومن تعسّفَ فيه مسرفاً شطح.

لقد بحثتُ في أمرِ خروج الموظفين من بيئات أعمالهم فخلصتُ في البحث الذي نشرته إحدى الجامعات البريطانية في كتيّبٍ أن السبب الأول ليس شغفُ المادّة وإنّما هو ضعفُ الإحترامِ لهم من قبل مسؤوليهم وعدم تقدير إنسانيتهم وأفكارهم الخلاّقة.

الاحترامُ نواةُ الإنسانية، فإن فسقت الإنسانية عن لبابها لم تبقَ إلا قشرةً مجرّدة..! لهذا فإن قوامُ الإنسانية في الوزير الإحترام على اختلافِ ألوانهِ ونواحييه، فإن الحصيفَ من الوزراءِ من يرى مكانته في النّاسِ لا في منطوقِ كلامهم فإن أكثرُ الكلامِ هذرٌ وهَرَف وإنّما في أخلاقهِ نحوهم، ورضاء الناس لا يدرك، وتقييم النفس من صفاتِ الرّشدِ، وإصلاحها من فضائل الرصانة، وليس أعجبُ من وزيرٍ لم تحملهُ نفسه على صلاحِ أمرهِ مع أنّه يرى من أمرها عجباً..! لقد بلغَ مثل هذا مبلغَ الزّهو والعظمة مبلغاً جاوز الحد..! حتى لم تعد أُذناهُ ترقطُ إلاّ ثناءاتِ الحمد، ومدائح المجد!

أمّا ضيِّقُ الأفق، حَرِجُ الصدر، فإنّه يجهلُ مكرمةَ الحلم؛ إذ يُضمرُ الضغينة لكلِّ من يسدي إليهِ نصيحةً، أو يشاركهُ رأياً يظنّه قد شاركهُ المنصبَ وقاسمه سلطته النافذة..! الوزيرُ الإنسان واسعُ الأفقِ، رحبُ الخاطرِ، حليم النفسِ إن زلّ عليهِ مخطئ صفح، وإن استشاطُ في وجههِ أحمقٌ سمح. هكذا هي الإنسانية عطاءٌ دون حدود، وأصلُ كل وجود، يقول جبران خليل جبران: "الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد".

تعليق عبر الفيس بوك