(ثياب سندس خضر)

عائشة البلوشية

إنّه ضحى أحد أيام الخريف في نهاية سبعينيات القرن الماضي، جاءت ابنة الجيران راكضة تدعونا أنا وشقيقتي للمساعدة في عمل ما، وتستأذن جدتي - أطال الله في عمرها- في ذلك، فنهضنا من فورنا لنصل ونجد أغلب أطفال الجيران متحلّقين حول وعاء مستدير عميق، مصنوع من المعدن، أعمق من الصحن وأقل عمقًا من القدر، وفي يد كل منهم حبة عسو (عود رفيع مأخوذ من عذق النخيل تتدلى فيه حبات الرطب)، وأعطيت أنا وشقيقتي حبة عسو في يد كل واحدة منّا، وبدأت امرأة مسنة في شرح المطلوب، وهو أن نطرق الوعاء بتلك الأعواد طرقات متتالية في إيقاع ينسجم مع ترنيمة معينة، وكان الإناء موضوعا أمام جارتنا التي وضعت ولدها الذي كان يصرخ بطريقة هستيرية في حضنها، وكنت أنظر بفضول إلى الماء الذي نثرت على سطحه أوراق الياس (الآس) الخضراء، وأنتظر بحماس البدء بالمهمة التي أشاهدها وأشارك فيها ﻷول مرة، فبدأت المرأة بالترنم: "يا صويره تصوري، كان من جني تصوري، وكان من إنسي تصوري، وكان من ناقة تصوري....."، وهكذا تقوم هي بذكر جميع ما في البيت وحوله من إنسان وحيوان ونبات وجماد، ونحن نطرق على ذلك الوعاء، وﻻحظت أنها تقوم بتسخين شيء ما على جمر الموقد القريب، ثم قامت بإلقائه في الماء الذي في الوعاء، ليحدث فرقعة واضحة نتيجة ارتطامه بالماء البارد، ونحن ﻻزلنا نطرق على الإناء، وبالطبع قامت بتحذيرنا منذ البداية من عدم الحركة أو الضحك أو الكلام، وبعد أن انتهت من قائمة الموجودات أمرتنا بالتوقف، فحبست أنفاسي منتظرة النتيجة عندما رأيتها تغمس يدها وسط أوراق الياس، وأخرجت قطعة معدنية غير محددة المعالم، وقالت: "الوليد فزعان من شجرة وظلتها"، وأمسكت بذلك الشكل وطفقت تشرح لجارتنا شكل الشجرة وظلها الذي أخاف الطفل فجعله يتفزز خوفا ويصحو صارخًا من نومه، فوصفت لها العلاج الذي كان عبارة عن بخور أعطتها إيّاه، ومنقوع غريب اللون، وهذه الطريقة معروفة لدى أغلب العمانيين، وعرفت ﻻحقا بأنّ ذلك المعدن هو الرصاص المذاب، يتم رميه في الماء ليبرد ويتشكل بعدها في أي شكل، تحدده المرأة القارئة للصورة التي أمامها لتحدد علة أو مسبب المرض؛ ظللت فترة بعد تلك التجربة أتفكر كيف يمكن لظل شجرة أن يخيف طفلا، كنت ﻻ أحب صوت حفيف النخل في فصل الخريف في العراقي، ﻹحساسي بالوحشة وانقباض الصدر، ﻷنني وﻻبد قد ربطت بين وجود ما يرعب وظل النخيل والأشجار وصوتها في فترات المساء بعد تلك الحادثة، وكنت قد ذكرت في سلسلة مقاﻻت "أرض السر" عن أموال النخيل، وكم كانت الضواحي في تلك الحقبة عبارة عن غابات كثيفة من الأشجار المتنوعة والنخل والحشائش، وكل شجرة أمبا تبدو وكأنها أيكة عظيمة بسبب الخصب والري، وكانت أي نسمة هواء تحركها، وريح الخريف لها صوت كئيب في مساءات ذلك الفصل، لذلك ﻻبد وأن ظلال الشجر التي تستطيل عند دنو قرص الشمس من الأفق وحركة الأغصان بسبب الهواء ﻻبد وأنّها أفزعت طفل الجيران، وكم أتحسر على تلك الأيام وأقول ليتها تعود بخضرتها ونضرتها.

ذهلت عندما كنت اتصفح التعداد المباشر لعدد السكان في العالم في موقع = www.worldmeters.info/ar/ وأنا أرى عدد الهكتارات من الغابات المتآكلة خلال هذا العام، حيث بلغت ما يربو على المليونين والنصف هكتار، وأنّ عدد خمسة ملايين من الهكتارات قد تعرض للتصحر خلال هذا العام أيضًا، وأن أكثر من ثلاثة ملايين من الأراضي الزراعية قد فقدت في ذات المدة، يا للهول! كم مساحة الأرض المزروعة على اليابسة حتى يتصحر أو يتراجع الخط الأخضر بهذا الكم الهائل من الهكتارات!؟، إلى أين تمضي المدنية بإنسان هذا الزمان؟ إنّ الإنسان أصبح يبحث عن الرفاهية وكل ما من شأنه أن يريح الإنسان ويجعله أكثر كسلا وخموﻻ، متجاهلا وغير آبه للكوارث التي يسببها للبيئة، وكأنه في سباق محموم راكضا للبحث عن المادة له فقط، دون أن يكترث لمعيشة أوﻻده أو أحفاده، أصبح يصنع أسلحة الدمار البيولوجية والنووية والذرية وغيرها، ليحمي ممتلكاته ونفسه، أو ليستولي على المزيد، فقضى على الأخضر وربما هو قد أشرف للقضاء عليه، ولم يتبق لنا سوى اليابس لنعيد له الحياة ونتشبث بحياة كريمة، بل لنترك ﻷبنائنا أنفاسا يتنفسونها على هذه الأرض.

سقت لكم حكاية "يا صويره" من ذكريات طفولتي، ﻷريكم كيف كانت الأشجار وظلالها تخيف أطفالنا لكثرتها وكثافتها، ترى لو أتينا بتلك المرأة المسنة من ذلك الماضي القريب وتحلقنا حول الوعاء ما الذي سنجده يخيف أبناءنا اليوم؟ هل سيتشكل ذلك الرصاص ويقول إنّها الألعاب الإلكترونية وما تحويها؟ أم تراه التلفاز وما يبثه من أفلام الرعب والسرعة والإثارة؟ أم تراها قنوات الأخبار التي أصبحت ﻻ تبث إلى أخبار التفجيرات والجثث والأشلاء والكوارث؟؛ وما هو الدور الذي يمكننا أن نقدمه لننتشل أبناءنا من مستقبل جاف قاحل؟ وجهة نظري المتواضعة هي أن نعلمهم الأخلاق قبل العلم، وأن نزرع في قلوبهم حب اللون الأخضر، وأن ديننا الحنيف حثنا على الغرس وأهميته، لدرجة أنّه لو قامت الساعة بأهوالها التي يشيب لها الرضيع، وفي يد أحد منا غرسة فليحاول أن يغرسها؛ وأن نشجعهم على الزراعة خارج البيت وداخله، ولنعلمهم ونتعلم معهم أنواع الزراعات المنزلية، فهناك الزراعة المقلوبة والمعلقة على الجدران وفي الأرض وفي سطح المنزل، بل لنجرب معهم زراعة نوع من الفاكهة أو الخضار يحبونه، ولنشجعهم على البحث عن الطرق المثلى لزراعته في محركات البحث المختلفة، لنربطهم بحب الأرض، وأن ظل شجرة قد يكون سببًا في ثقل موازينهم يوم القيامة.

· توقيع: "أﻻ يكفينا أن نعلم أنّ اللون الأخضر هو لباس أهل الجنة وفرشهم لنحبه؟ ولنا في آيات القرآن الكريم المثل الأعلى".

تعليق عبر الفيس بوك