مسقط -العمانية
تُشكل القلاع والحصون في عمان مباني حاضنة لميراث أفراد وجماعات حضروا تفاصيل التاريخ وانبعاثاته المتكررة .. وهي بذلك تشكل بُعداً ثقافياً في سياق المشهد الثقافي والحضاري في عُمان.
فالقلاع والحصون إلى جانب دورها السياسي والعسكري كانت منابر عِلم وإشعاع حضاري .. ففي زمن السلم تتحول إلى جامعات تنثر علومها على الجميع يلتقي فيها العلماء بطُلاب المعرفة وتدور في ردهاتها الحوارات والنقاشات الدينية والثقافية والفكرية وتنتج في النهاية خطابا ثقافيا يشع في كل الأنحاء.
وعلى امتداد الأرض توجد القلاع والحصون بكثرة في عُمان إلى حد أنه نادراً ما توجد سلسلة جبلية أو وادٍ إلا يتوسطه برج شامخ .. وهي في جوهرها تعتبر مركز السلطة ومعقل الهجرة أو المجتمع ومقر الحاكم المحلي أو الوالي أو الشيخ .. وتشكل في العادة مع السوق والمساجد نواة المستوطنة وتحف بها بيوت مسورة ومشيدة من اللبن تنتشر بينها شوارع متعرجة تؤدي من الحقول وإليها .
ولما كانت الحصون والقلاع كذلك فقد أولاها العمانيون جل اهتمامهم سواء بالتفنن في الهندسة المعمارية أو في تزيينها بالنقوش الإسلامية أو بنقوش الحضارات المجاورة كالحضارة الفارسية أو العثمانية أو الهندية التي تشكلت لديهم نتيجة الصلات التجارية التي كانت قائمة بينهم وبين تلك الحضارات الإنسانية، ما أفرز في النهاية هندسة معمارية عمانية متميزة يمكن مشاهدتها في هندسة القلاع في البلاد أو حتى في القصور والبيوت القديمة. وعند الحديث عن الحصون والقلاع فإنه لا بد من الحديث عن ولاية المصنعة هذه الولاية الساحلية لمحافظة جنوب الباطنة التي تستلقي على بحر عمان بهدوء وسكينة.
ولهذه الولاية سِمتان من الجمال تستند عليهما وهما البحر والجبل، ولا فرار لها من عِناق الأول والاتكاء على شموخ الآخر. أما من الشرق فهي معانقة لولاية بركاء التي توصلها مباشرة بالعاصمة مسقط بعد 133 كم ومن الغرب حيث تُشرق عليها الشمس صافية وطرية فتقف ولاية السويق مستكينة هي الأخرى ومستلقية على بحر عمان.
وعند البحر حيث مر التاريخ شامخاً خلال سنون الحضارة العمانية القديمة يستكين "حصن المصنعة " الذي يقف شامخاً، وحارساً للولاية مما يأتي من وراء البحار، أو هو حارس أمين ومنظر حاذق للتفاعلات الحضارية التي تأتي من الضفة الأخرى ليس لولاية المصنعة فقط بل لمناطق العُمق العماني في مدينة الرستاق ذات البُعد التاريخي الباذخ، ومنها إلى داخل عمان ووسطها.
هذا السياق يكشف الأهمية الإستراتيجية للحصن، ويكشف براعة الإنسان العماني في اختيار المساحات المكانية التي تُقام عليها التحصينات العسكرية التي تحمي باقي التحصينات الحضارية .. هذا الاختيار أعطى سُلطة الحُكم في تلك المرحلة نفوذاً قوياً على المناطق الساحلية وكل ما يمكن أن يأتي من خلالها أو عبرها .. ولذا فقد كان مقراً لولاة وقضاة الأئمة والسلاطين وحامياً لسكان المنطقة أثناء الحرب الخارجية أو حتى التوترات الداخلية التي كانت تحدث بين القبائل.
عندما تضع قدمك اليمنى داخل الحصن، فإن ثمة شعورا بأن التاريخ وأسراره يُحيطان بك من كل اتجاه.
ويتكون الحصن من ثلاثة طوابق تضم عدداً من الدهاليز والغرف، وبه عدد من المدافع الحربية، كما يضم بعض السراديب والأنفاق السرية التي تؤمن الخروج من الحصن لتزويده بالمؤن الضرورية في حالة الحصار، وهو أسلوب عماني بامتياز في بناء القلاع والحصون، والمباني العسكرية المؤمنة. تتقدم قليلاً فترى سُلما يؤدي إلى الغُرفة العلوية من الحصن . ويشغل الحصن مساحة تبلغ 22 متراً و20 متراً ويبلغ طول جدرانه 15 الى 18 متراً ويتكون من برجين دائريين متقاطعين قطرياً كالكثير من الحصون والقلاع مثل حصن الحزم وقلعة بهلا وحصن العوابي. ويقع أحد البرجين في الناحية الشمالية الشرقية بقطر 6 أمتار والبرج الذي في الناحية الجنوبية يقع في الجهة الشمالية وهو مدخل مقنطر تعلوه فتحة لإطلاق النار. وقد شُيد الحصن بالطين والجص، وقد كان الطابق الأرضي يضم فناءً مركزياً يُحيط به عدد من الغرف التي كانت تستخدم للتخزين، ويوجد في فناء الحصن بئر وخزان كانا يستخدمان في حالة الحصار أثناء الحرب، ويوجد في الفناء درج يصل إلى الطابق العلوي من الحصن وهناك مبانٍ شبه مندثرة خارج الحصن كانت تابعة له، وكانت تستخدم كغرف للاستقبال وربما استخدمت كمساكن للحرس أو العاملين في الحصن. وتقع هذه المباني في الناحية الشمالية للحصن، وهناك آثار سور متهدم يمتد من البرج الجنوبي الغربي نحو الغرب لمسافة تصل إلى 69 متراً تقريباً، وتصل أطلال ذلك السور إلى مبنى صغير توجد به آثار برج ركني دائري. ويُخطئ من يعتقد أن الحصون والقلاع العمانية كان دورها الوحيد هو الدور العسكري، وان كان رئيسياً في زمن الحروب، إلا أن لها أدوارا أخرى ليس آخرها أنها مركز إداري وقيادي، ومساحة لممارسة الحكم المحلي، ومكان لعدالة ميزان القضاء، إضافة إلى دورها التنويري والثقافي بوصفها مكاناً للتعليم التقليدي، وملتقى للعلماء والمفكرين ورجال الدين والسياسة .. كما أنها بناء تشع منه هيبة الدولة وقوتها.
فالدور العسكري يتجلى في أوقات الحرب ومقاومة الأعداء وبهذا الوصف فهو الحصن الذي يلوذ إليه الناس وقت المحن، وفيه تعقد الرايات وتنطلق الحروب.
أما عن دوره التعليمي فكان للحصن دور بارز في ذلك بوجود مدرسة للقرآن الكريم احتضنت أهل الولاية، ولم تكن المدرسة لتعليم القرآن فقط، بل كانت تعلم العلوم الشرعية المرتبطة بالضرورة بالنص القرآني. أما الدور الاجتماعي فيتمثل بالبرزة، وهي البرلمان الذي كان يحضره أعيان الولاية وكافة الناس للتباحث مع الوالي والقاضي لبحث شؤون البلاد وهذا بحد ذاته دور اجتماعي مهم. والراجح أن باني حصن المصنعة هو أحد أبناء أئمة اليعاربة ولعله آخرهم، كما تُؤكد بعض المراجع التاريخية. ونقرأ ما كتبه مايلز في كتابه "الخليج بلدانه وقبائله" وهو يتحدث عن حصن المصنعة "حصن المصنعة قديم ومبني بطريقة جديدة بعد أن قام اليعاربة بتجديده ويضم حوالي ستين قطعة من المعدات الحربية ومدافع عيار 12 و14 بعضها على قوائم وبعضها بغير قوائم". وذكر صاحب كتاب" الخليج بلدانه وقبائله" أن المصنعة حكايات وروايات وأن فترة بناء الحصن تعود إلى أواخر عهد اليعاربة وبداية عهد الإمام احمد بن سعيد البوسعيدي واذا رجعنا الى كتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» للإمام نور الدين السالمي نجده يقول ان الامام احمد بن سعيد قد خلصت له حصون الباطنة ولا يستبعد أن يكون هذا الحصن قد خلص له أيضاً لموقعه الاستراتيجي بين صحار وبركاء أهم حواضر الدولة البوسعيدية. وتواتر لدى أهالي المنطقة أبا عن جد ما يُؤكد صحة ما ورد في المصادر آنفة الذكر، فكلهم يؤمنون بأن الحصن بُني في أواخر عهد اليعاربة وبداية حكم الإمام أحمد بن سعيد.