أمسك عليك لسانك(4)

جوخة الحارثيَّة *

قال تعالى: "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" (ق:18).

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. نُكمل اليوم -بتوفيق من الله- سلسلة الدرس الأول "أمسك عليك لسانك"، ونبدأها بـ"تعلموا الصمت كما تعلمه الأسلاف":

- عن الحسن قال: يا ابن آدم، بُسطت لك صحيفة، ووُكِّل بك ملكان كريمان يكتبان عمَلك؛ فأكثر ما شئت أو أقلَّ. وكان رحمه الله يقول: من كثر ماله كثرت ذُنُوبه، ومن كثر كلامه كثر كَذِبُه، ومن ساء خلُقه عذَّب نفسه.

- قال مورّق العجْلي رحمه الله: تعلمت الصمتَ في عشر سنين، وما قلتُ شيئًا قط -إذا غضبتُ- أندمُ عليه إذا زال غضبي.

الصمت زين والسكوت سلامة...

فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً

فإذا ندمت على سكوتك مرة...

فلتندمن على الكلام مراراً

- قال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن، فغلبنا بطول الصمت، وسخاء النفس، وكثرة الصلاة.

- عن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فأطولهم سكوتًا أفضلهم في أنفسهم.

- قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ما حجٌّ ولا رباطٌ ولا اجتهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يُهمُّك لسانُك أصبحتَ في غمٍّ شديد.

- وقال رحمه الله: سجن اللسان سجن المؤمن، وليس أحد أشدَّ غمًّا ممن سجن لسانه.

- عن عمر بن عبد العزيز، قال: إذا رأيتم الرجل يُطيل الصمت ويهرب من الناس، فاقتربوا منه؛ فإنه يُلَقَّن الحكمة.

- قال خارجة بن مصعب: صحبتُ ابنَ عَوْن ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلّم بكلمة كتبها عليه الكرامُ الكاتبون.

- قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشدُّ على الناس من حفظ الدينار والدرهم.

- قال الأوزاعي: كتب إلينا عُمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير، ومن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه.

.. فاحفظ لسانك أيها الحبيب تنجُ، وعوِّد لسانك قولَ الخير تنجُ به من زلة اللفظ أو من زلة القدم.

إنَّ اللسان جارحة لها الصَّدارة في الخطورة بين الجوارح، وتعتريه الكثير من الآفات والموبقات الواجب اجتنابها والحذر منها.. ومن هذه الآفات:

* الخوض في الباطل: يقول المولى الكريم حكاية عن بعض أهل النار قولهم: "وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ"، وهو الدخول في أي حديث وأي كلام بلا حساب ولا تدبر ولا وعي. وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قوله: "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل".

* المراء والمجادلة: فترك الجدال والمماراة تتوقف عليه استكمال حقيقة الإيمان، وعنه -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء والجدال وإن كان محقاً"؛ فالمراء والجدال مع الكون على الحق مبغوض لله ولرسوله؛ فكيف إن كان بالباطل!! فعنه -صلى الله عليه وآله وسلم- "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع".

* الفحش والسب واللعن: ولعلَّ هذه الآفات هي أكثر الآفات شيوعاً، واللسان أسرع إليها من غيرها؛ فترى الناس في حال الغضب يسبون ويلعنون بالفاحش من الكلام وفي الرضا، كذلك لا يتورَّعون، ولكن هل يا تُرى من يلعن أو يتفحش أو يسب يكون مؤمناً؟

يجيب عن ذلك الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بقوله: "ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعان ولا الفحاش ولا البذي". لذا؛ فقد وصفه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لزوجه عائشة قائلاً: "يا عائشة، لو كان الفحش رجلاً لكان رجل سوء".

* السخرية والاستهزاء: فإنهما من الكبر؛ قال تعالى: "لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ".

* إفشاء السر: والسر من أعظم الأمانات؛ لذا فإفشاؤه خيانة والله لا يحب الخائنين، وقد عبَّر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- عن كتمان ما يسمع الإنسان في المجلس الذي يحضره بقوله: "المجالس بالأمانات"، وقال أيضاً: "الحديث بينكم أمانة".

* الكذب: وهو آفة الآفات، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب".

* الغيبة: وهي أيضاً من أعظم الآفات وأشدها خطراً وأقبحها شكلاً حتى لقد شبه الله المغتاب بأكل الجيف!! فقد قال الله عزَّ وجل: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه".

* النميمة: ففي الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنه قتّات" أي: النمّام؛ فالنميمة هي: نقل الكلام بين اثنين لإيقاع العداوة والبغضاء وهذا من الشر كله؛ فالواجب عدم تصديق كلام النمام لأن النمام فاسق مردود الشهادة.

نسأل الله -عزَّ وجلَّ- بمنِّه وكرمه أن يعاملنا بلطفه وكرمه، وأن يرزقنا حسن التعامل مع ألسنتنا، وأن نقيدها بلجام الشرع، وأن يجعل يومنا خيراً من أمسنا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ذرياتنا وأحبابنا إلى ما يحبه ويرضاه، إن ربي لطيف رحيم.

* دائرة الإرشاد النسوي بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

تعليق عبر الفيس بوك