ناصر بن خلفان البادي
لا يختلف اثنان من المسلمين في أنّ الصلاة مثلاً عبادة واجبة وأنّ الصيام كذلك والحج أيضًا، لكن إذا تحدثت عن القراءة وطلب العلم ستجد عالمًا آخر يكاد يقترب من اتهام الحريصين على القراءة وطلب العلم بالخبل والسخف، وكأن أول أمر في الرسالة الإسلامية الذي افتتح به الوحي يعني خلقا من كوكب آخر غير كوكبنا، والنزر اليسير الذي فهم أنّ القراءة عبادة شرعية جعلها عبادة مع وقف التنفيذ. ومع أنّ موقف الإسلام من القراءة والتعلم واضح ومباشر وصريح وقوي، وأهمية القراءة في أمور التدين أو أمور الحياة ظاهرة للعيان، إلا أنّ حال شريحة عريضة من المسلمين مع القراءة تحتاج إلى مراجعة وإعادة صياغة مقارنة بها مع غير المسلمين، ويحتاج موقف المسلمين مع القراءة إلى إعادة بناء وتطبيق وسائل عدة لإعادتهم إلى هذه العبادة المنسية.
إنّ موقف الإسلام من الدعوة إلى القراءة وطلب العلم واضح كما قلنا وضوحًا جليًا، فإنّ أول كلمة وأول أمر نزل به الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة "اقرأ". وهذه إشارة إلى أهمية القراءة في إقامة الدين والدنيا. كما يُشير البدء بهذه الكلمة إلى أنّ عهدًا جديدًا بدأ بنزول القرآن، وهو عهد التنوير القائم على العلم، وأنّ عهود الجهل والظلام والاعتماد على القوة المادية فقط قد ولت وانتهت، وبدأ العالم يدخل عصر المعرفة، وأنّه على المسلم أن يقود هذه المعرفة. كما أنّ هناك آيات كثيرة في الكتاب العزيز أمرت بالتعلم والتفكر والقراءة في صفحة الكون، ومدحت العلماء: فالله تعالى يقول مثلاً: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"، ويقول: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، ويقول: "اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"، ويقول: "إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب". وفي السنة أيضًا جاءت أحاديث نبوية كثيرة تأمر بالعلم وتمدح المُتعلمين: فقد قال صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ويقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقاً إلى الجنة"، ويقول: "بلغوا عنِّي ولو آية". وظهر ذلك أيضًا في التطبيق العملي في السنة النبوية، فبعد غزوة بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر من مشركي قريش بأن يقوم المُتعلم منهم بتعليم عشرة من الصحابة القراءة والكتابة، ويكون ذلك فداؤه. فالقراءة والتعلم في الإسلام ليست أمور هامشية ولا نافلة تطوعية، بل هي ضرورة دينية ودنيوية.
إنّ أهمية القراءة الدينية والدنيوية - بجانب كونها عبادة شرعية- تتجلى في أنّ الله تعالى خلق الإنسان في هذه الدنيا من أجل عبادته والفوز برضائه، وهذه العبادة المطلوبة من الإنسان لها شقان: شق مادي دنيوي، وهو عمارة الأرض وبناء الكون، وتشييد حضارة إنسانية تقوم على الإيمان بالله تعالى، وشق معنوي أخروي، وهو العمل لدار الكرامة والبقاء، وتأدية شعائر الدين من أجل النجاة في الآخرة والفوز بنعيمها. ونحن إذا نظرنا إلى هذين الشقين للعبادة فسنجد أنهما لا يقومان إلا بالعلم والتعلم، فعمارة الدنيا تقوم على العلوم الإنسانية والطبيعية والتقنية، فالصناعات المختلفة، والتكنولوجيا المتطورة، والبنيان، والزراعة، وسياسة المجتمعات وإدارتها، وتربية الأطفال وتعليمهم، وحماية الديار، واستخراج الثروات الطبيعية، لا تستقيم إلا بالعلم، ولا تتقدم إلا بتطوير العلم بالبحث والقراءة، ولولا العلم والبحث والقراءة، لما رأى الإنسان أي تطور يُذكر في نواحي الحياة، ولما استطاع توفير أبسط الأشياء فضلا عن أعظمها. وفي الشق الثاني الذي هو العمل للدار الآخرة بإقامة شعائر الدين، نجد أنّ هذا الشق أيضًا يعتمد على العلم والمعرفة اعتمادًا كليًا، لأنّ الله تعالى لا يقبل العمل إلا بشرطين: أن يكون صحيحاً، وأن يكون خالصًا له. وصحة العمل والإخلاص فيه يحتاجان إلى العلم والمعرفة، فكيف يمكن مثلاً أن يُصلي المسلم صلاة صحيحة وهو لم يتعلم قراءة الفاتحة، ولا أركان الصلاة وشروطها؟. وكيف للمسلم أن تكون صلاته خالصة لوجه الله وهو لا يعرف مثلا شيئا عن الرياء وخطورته على العمل وطرق دفعه والتخلص منه؟. إذن فشعائر الدين كذلك لا تستقيم إلا بالعلم والمعرفة، ولا يعذر فيها جاهل بجهله.
ومع أنّ القراءة لها هذه المكانة في الإسلام، ولها هذه الضرورة في عبادة الله جلّ وعلا، إلا أنّ بعض الإحصائيات والمواقف تشير إلى أنّ المسلمين بحاجة فعلية ماسة وعاجلة لإعادة إحياء هذه العبادة الجليلة. فنسبة الأمية القرائية في كثير من الدول الإسلامية لا تزال مرتفعة جدًا جدًا، وتصل إلى 90% في بعض الدول الإسلامية مثل موريتانيا وبنغلاديش ومالي وبوركينا فاسو، في مقابل احتفال بعض الدول المتقدمة بموت آخر أمي لا يعرف الكمبيوتر فيها. كما ذكرت بعض الإحصائيات أن معدل قراءة الشخص العربي (6) دقائق فقط في السنة، في مقابل أكثر من 200 دقيقة لنظيره في الدول الغربية. وقد أجريتُ استفتاء سريعاً وبسيطاً في بعض المحاضرات العامة الخاصة بالقراءة لأتأكد من هذه المؤشرات، وفحوى الاستفتاء: إذ كنت في صالة الانتظار في المستشفى، ورأيت شخصاً من المنتظرين يحمل في يده كتاباً يقرأ فيه، فماذا ستقول عنه في نفسك؟ فأدلى مجموعة بأجوبة جميلة ورائعة، ولكن كان أيضاً كثير من الأجوبة صادم للغاية، حيث قال بعضهم: أقول عنه بأنّه فارغ. وقال بعضهم: أقول عنه أنّه متخلف. وقال بعضهم: أقول عنه مُتشدد. وقال بعضهم: أقول فيه خفة في عقله. إنّ أمة يرى أفرادها أن القراءة فراغ أو تخلف أو جنون لهي أمة تسير في طريق مقلق جدًا، وعليها أن تصحح مسارها بسرعة.
وفي المقابل نجد أنّ هناك تجارب عالمية في الدول المتقدمة صناعيًا وعلمياً تهتم اهتماماً كبيراً بالتعلم والقراءة، ويمكن لنا الاستفادة من تلك الرؤى والتجارب في إعادة إحياء عبادة القراءة، ففي اليابان مثلاً قال أحد المفكرين الكبار الذين يرسمون السياسة التربوية في اليابان: (جميع شعوب الدنيا تعتمد على ثروات تحت أقدامها - يقصد الثروات الطبيعية - وهي ثروات ناضبة. وأما نحن في اليابان فنعتمد على ثروات فوق أقدامنا - يقصد العقول - وهي ثروات مُتجددة، تنمو كلما استخدمناها).وفي فرنسا وجدت وزارة الثقافة الفرنسية عزوفا عن الكتاب لصالح الإنترنت، فأعلن وزير الثقافة الفرنسي حالة الطوارئ القصوى سنة 1993م، فنزل الوزير الفرنسي ومعه كبار المؤلفين والمفكرين والمثقفين في الشوارع والحدائق والأماكن العامة يقرؤون أمام الناس، ويتحدثون إلى النّاس عن القراءة ويشجعونهم عليها، في مهرجان أسموه (مهرجان جنون المطالعة). وفي بعض الدول المتقدمة أصبحت الكتب توزع حتى في المقاهي والمطاعم، وبعض المطاعم في تلك الدول توفر للزبون كتاباً يقرأ فيه في فترات انتظار الوجبات، وفي دول أخرى أصبح الكتاب يصرف عبر مصارف آلية منتشرة في كل مكان، كمصارف النقود. إن إحياء مثل هذه التجارب بين شبابنا وفي مجتمعنا ليس صعبًا، خاصة إذا أحيينا الاعتقاد الإسلامي حول القراءة وطلب العلم بأنها عبادة وقربة لله تعالى.
ومما سبق يمكننا أن نخلص إلى ضرورة إحياء هذه العبادة الجليلة - كما قلت- لضرورتها لصلاحنا الديني وتقدمنا الدنيوي، وذلك الإحياء يبدأ على مستوى الأفراد والتجمعات الصغيرة، عبر عدة وسائل وطرق، منها السعي إلى تكوين مجموعات قراءة، في البيوت والأحياء والمساجد والمدارس والجامعات، ليتحفز الشباب على القراءة، بحيث تنظم هذه المجموعات برامج قرائية نافعة، مثل أن تقرر في كل شهر كتابا واحدا نافعا، يقوم أعضاء المجموعة بقراءته، ثم يجتمعون في نهاية الشهر لمناقشة ما قرؤوه، وللاتفاق على كتاب جديد للشهر التالي، ويمكن أن يرصدوا جوائز رمزية للقارئ المتميز في كل شهر. كذلك يمكن إنشاء مكتبات صغيرة في البيوت أو المدارس أو المساجد، ليسهل على الناشئة الوصول إلى الكتاب في أي وقت.ومن المتاح أيضًا أن يقومالمربون والمعلمون والمثقفون والمدربون والدعاة بنشر الوعي القرائي في المجتمع، من خلال الندوات والمحاضرات ووسائل الإعلام والنصائح الفردية التي تبث الوعي بأهمية القراءة. كما أنّ أصحاب المال والأعمال مطالبون بدعم المكتبات وتوفير الكتب، من خلال افتتاح المكتبات في الأحياء السكنية والبيوت والجوامع، ومن خلال إهداء الكتب للمحتاجين إليها. ودور المربي في المنزل كبير ومُهم من حيث توفير الكتب والمواد التعليمية لأبنائه، وتوفير البيئة المناسبة والمحفزة على التعلم داخل الأسرة.
إنّ إعادة عبادة القراءة إلى الوجود تحتاج إلى الانطلاق وتخطي حاجز البداية، فهي ضرورة ملحة لا تحتمل التأخير، فإنّ التأخر في القراءة والتعلم يعني التأخر في اكتساب المعارف اللازمة للتطور والتقدم، وبالتالي فإنّ أي تأخر يعني زيادة الاختناق، وتلك البدايات لا بد أن تكون عن طريق بناء الاعتقاد المجتمعي الصحيح الذي يوجه المجتمع إلى أن التعلم والقراءة هي عبادة وقربة، وهي ضرورة أساسية للتطور والتقدم، وإلغاء فكرة وعقيدة أنّ القراءة عبادة مع وقف التنفيذ.