صراع العُقدة والعقيدة

علي المعشني

العُقدة والعُقد في اللغة هما ما تشابك من الشيء، وفي علم النفس: المعاناة العميقة المتجذِّرة، الناتجة عمَّا يُعرف بـ"الحداد المُزمن" في نفسية الشخص والذي يختزله العقل الباطن "الصندوق الأسود" ليبعثه ويدفع به في كل حين، ليجدِّد الحزن واليأس والإحباط في النفس.

والعقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقداً، ومنه عقدة اليمين والنكاح، قال الله تبارك وتعالى: "لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ" (المائدة: 89).

والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، والعقيدة في الدين ما يقصد به الاعتقاد دون العمل؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد، وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقاً، أم باطلاً.

وفي زمننا العربي المعاصر كثيرًا ما تحتدم صراعات ومعارك وحروب، ليس لها موقع من الإعراب والفهم والتفسير، سوى الصراع بين العُقدة والعقيدة أولًا وأخيرًا ومهما طفت على السطح وتباينت التفسيرات والمزاعم.

بل والأدهى والأمَر من كل ذلك، ألا يعلم أو يفقه أحد أطراف الصراع أو كليهما أن مرد صراعهما وبنيته الأساس ودافعه القوي، هو الانتصار للعُقدة وبدافع منها، حتى وإن تطلب الأمر ولزم التضحية بالعقيدة والمساس بها.

وفي فصول ربيعنا المشؤوم ويومياته، مرَّت علينا ورأينا نماذج شاخصة من أنواع صراع العُقدة والعقيدة، وتجلى ذلك في ولوج من يسمون أنفسهم بالإسلاميين وتقاطرهم على كرسي السلطة، وتحالفهم مع الخصوم والاستقواء بهم، بصور أخلت كثيرًا بأدبياتهم وقناعاتهم التي روجوها لعقود خلت، وسكبوها في عقول الناس، حين تلبسوا بطهارة الإسلام "كعقيدة" وهدي وحل.

ولكنهم أصابهم السعار لشغور الكرسي، وتكالبوا على الأوطان، فدخلوا السلطة وتركوا الإسلام على الباب شاهدًا على حجم المعاناة وعمق العُقدة في أغوار نفوسهم، والتي دعتهم إلى التضحية بالعقيدة وتجاوزها بيسر وبمكيافيللية واضحة وغير مسبوقة، بل وتفوقوا على من أسموهم ذات يوم بالطُغاة والمُستبدين، ودعوا الشعوب لإسقاطهم والخروج عليهم، في تبرير واضح لسلوكهم وأفعالهم وانقلابهم الفكري الخطير، وكأنه يحق "للإسلاميين" ما لا يحق لغيرهم.

لم يقتصر الخطاب التبريري على العصرنة فحسب، بل تطلب الأمر استدعاء أمثلة ومواقف من التاريخ وتجييشه ليُشكل غطاءً شرعيًّا وحاضنًا تبريريًّا عميقًا لكل غي فكري أو سلوكي.

من أحرق الكنائس وفجَّر بيوت الله على رؤوس العباد اليوم، حجته أن الحَجَّاج هدم الكعبة ذات يوم للنيل من عبدالله بن الزبير واستتباب الأمر للخليفة، وللحفاظ على "هيبة الدولة" و"طاعة ولي الأمر". ومن نحر الأبرياء وجزَّ رؤوسهم كالخراف وأضاحي العيد، حجته وتأسيه بجملة من الوقائع التاريخية التي أزهقت فيها أرواح بريئة من صحابة وعوام مسلمين لاحصر لها.

من قام بتلك الأفعال والسلوكات المُشينة والمُدانة في كل زمان ومكان وفي عقل كل إنسان سوي، حضورهم في خطابنا الديني والإعلامي والتعليمي يفوق بمئات المرات حضور سير الفاروق عمر والصديق أبوبكر وباب مدينة العلم علي وذي النورين عثمان والخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- فطالما رضينا بترحيل تلك الفواجع لنجعلها ثقافات عابرة للأجيال، وطالما رددنا عبارة "لا اجتهاد مع التراث والسلف الصالح"، وطالما تسلحنا بعبارة "تلك أقوام قد خلت" للهروب من استحقاقات تاريخية لا تزال تُشكل وقودا ثقافيا مهمًّا، لاحتدام الصراع واستمراره بين العُقدة والعقيدة؛ فعلينا ألا نرجو مخرجًا لائقًا من التخلف ومغادرة الواقع نحو مستقبل واعد ومجد ضائع.

نحن نعلم أنَّ التجارة بالدين والتستر به تجارة رائجة عبر العصور ولجميع الأديان والمذاهب؛ فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، حين تحضر مصلحته العارية وتدفعه للتجرد من كل قيمة وعقيدة، لينتصر لشهوة ولعقدة وليحقق مأربه فحينها يتسلح بدين وضعي من بنات أفكاره ولزوم عقدته لا أكثر ولا أقل، وإن تستر بمظاهر الدين وقشوره وشعائره.

قبل الوداع: لماذا يُطرب البعض ويتلذذ بوجود قنوات فضائية "تسب" الصحابة وتنال منهم، رغم سطوته وقدرته على إغلاقها كما أغلق قنوات لا تروق لسياسته ونهجه الدنيوي؟! انتصروا للإسلام لا للمذهب، وللعقيدة لا للعُقدة، وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك