صُور - العُمانيَّة
بخفَّة كبيرة، تخرُج سلحفاة خضراء على شاطئ البحر في وسط محمية السلاحف برأس الحد، تزحف لدقائق إلى أن تصل إلى مكان معلوم لديها.. تحفر، وتحفر، وتبدأ في وضع بيضها. إنه شهر يونيو المفضَّل لديها، وشاطئ رأس الحد الذي لا تحلم بأفضل منه لها.
وفي المقابل، هناك ضَوْء من مصباح يدوي يأتي من بعيد يراقب المشهد، وعشرات السياح ينظرون بفضول كبير دون أن يُسمع حتى تنفسهم.
... إنَّها رحلة أشبه بالمغامرة، أو بعملية شديدة السرية، يتسلل فيها السياح ليلا على ضوء مصابيح يدوية صغيرة، ويقتربون بصمت شديد من الشاطئ؛ حيث تبدأ السلاحف هذه الأيام في الخروج بكثافة إلى الشاطئ لوَضْع بيضها في مشهد لا يكاد يتكرر في مكان آخر من الشرق الأوسط.
ويتوافد مئات السياح من كل مكان في العالم لمشاهدة التفاصيل التي عادة ما يعتبرونها رومانسية جدا. إنَّها تجربة مميزة يعيشها السياح في عُمان؛ حيث تكثر السلاحف التي تختار السواحل العمانية مرسى لها، لتضع بيضها وتتركه هناك.
وضمن رعاية الدولة للحياة البرية والبحرية؛ فقد أنشأت محمية خاصة للسلاحف في رأس الحد، هي اليوم من بين الأماكن المهمة التي ترعى السلاحف في العالم.
وتمتد محمية رأس الحد على مساحة 120 كيلومترا مربعا من الشواطئ والأراضي الساحلية وقاع البحر وخورين (خور الحجر وخور جراما)؛ وذلك بهدف الحفاظ على تلك الأنواع الفريدة من السلاحف. وتهدفُ المحمية إلى الحفاظ على السلاحف وأماكن تعشيشها على الشواطئ، وتهدف أيضا إلى نشر الوعي البيئي بين المواطنين، والاستغلال الأمثل للموارد البيئية؛ وذلك لتشجيع السياحة البيئية والبحوث العلمية.
ويُعدُّ خور جراما أكبر وأعمق الأخوار الموجودة في المحمية، وهو يرتبط بالبحر بممر ضيق شبيه باللسان البحري. تحدُّه مسطحات طميية يصل عرضها إلى كيلومتر، كما يحده من الجنوب ساحل يؤدي إلى أرض سبخة. وتوجد بهذا الخور مجموعات من أشجار القرم الصغيرة على طول شاطئ الخور الشرقي والجنوبي، وهو خُور ضَحْل لما يتعرَّض إليه من جفاف خلال فترات المد في الربيع. أما خور الحجر فيستعمله الصيادون محطة لرسو قواربهم الصغيرة.
وتحتوي المحمية على العديد من الموارد الفيزيائية والحيوية؛ إذ توجد بها شواطئ رملية وسلاسل جبلية وأخوار صخرية مناسبة لتجمعات الطيور. وسجل في المحمية أكثر من 130 طائرا مهاجرا ومستوطنا، منها: طيور النورس والخرشنة.
وتتَّخذ الطيور من المسطحات الطميية الموجودة حول خور جراما وخور الحجر مصدر تغذية لها، ويحتوي الخوران على التجمعات المرجانية وأشجار القرم الصغيرة وغابات الغاف. وتتنوع المواقع الأثرية بالمحمية ذات الأهمية التاريخية. وتشير بعض الإحصائيات إلى وجود ما يقرب من 60 موقعا رئيسيا للحفريات.
وتنتشر في السلطنة 5 أنواع من السلاحف: السلحفاة الخضراء، والشرشاف، والزيتونية، والريماني، وسلحفاة النملة التي تأتي إلى الشاطئ بحثا عن الغذاء.
ومن بين أشهر السلاحف التي تكثر في هذه المنطقة السلحفاة الخضراء والتي تسمى محليا بالحمسة، وغليوم، وهومية.
ويبلغ طول السلحفاة الخضراء بين 75 و150سم، ووزنها بين 75 و140 كجم، وبها حرشفتان في خطمها أمام عينيها، ويتكوَّن درعها العظمي من حراشف كبيرة غير متداخلة تشبه القلب دون حدبات. وجسمها مسطح بيضي، ورأسها صغير ومدور وينتهي بمخلب بارز، ويحتوي كل طرف من أطرافها على مخلب واحد.
ويصطبغ الدرع بلون أخضر فاتح يميل إلى الأخضر الغامق، وقد تظهر عليه ألوان أخرى منها البني والأصفر، وهناك المبقَّع والمخطط، ويصطبغ جسمها من الأسفل باللون الأصفر، وهي من السلاحف الأوسع انتشارا وتوجد على نطاق واسع في رأس الجنز، وعلى طول الساحل من رأس الحد إلى جزر الحلانيات في بحر العرب، وفي جزر الديمانيات في بحر عُمان. وتتغذى هذه الأنواع من السلاحف في بداية حياتها على اللحوم، ثم تصبح نباتية بعد السنة الأولى من عمرها؛ حيث تتغذى على الأعشاب البحرية بحسب ما تذكره الموسوعة العمانية.
وتتكاثر السلحفاة الخضراء طوال العام عادة. أما ذروة تكاثرها، فتكون بين يونيو وسبتمبر في رأس الحد وبين سبتمبر وديسمبر في جزيرة مصيرة. وتحفر الإناث أعشاشها في رمال الشاطئ وتضع ما بين 60 و179 بيضة، ثم تردم الحفرة لتعود إلى البحر، وتعود إلى الشاطئ مرة أخرى لتحفر عشا آخر بعد 12 يوما تقريبا.
وتستمر مُدَّة حضانة البيض من شهرين إلى ثلاثة أشهر ونصف، حسب حرارة رمال الشاطئ. وتصل السلحفاة الخضراء إلى البلوغ الجنسي حينما يكون عمرها بين 33 و50 سنة وتعيش حتى 100 سنة تقريبا.
وتقع رأس الحد شرق مدينة صور وهي جزء من مجموعة شواطئ تعشيش السلاحف، لكنها تجتذب أكبر عدد من السلاحف الخضراء المعششة في السلطنة؛ مما يجعلها ذات أهمية كبرى لاستمرار حياة وبقاء هذا النوع من السلاحف المهددة بالانقراض.
وفي كلِّ عام تعشش في هذه المنطقة حوالي 6000 إلى 13000 سلحفاة، تفد إلى السلطنة من مناطق أخرى بعيدة مثل الخليج العربي والبحر الأحمر وشواطئ الصومال. وبالإضافة إلى السلاحف التي ترتاد هذه المنطقة فإنَّ خور جراما يتميَّز أيضا بوجود العديد من الشعب المرجانية المنتشرة في الشواطئ.
وتعتبر السلاحف البحرية من أهم الموارد الحيوية بالمحمية؛ حيث يفد آلاف الزوار سنويا لمشاهدتها؛ إذ بلغ عدد السلاحف الخضراء حسب التقديرات المتاحة حوالي 20 ألف سلحفاة تعشش في أكثر من 275 موقعا على امتداد شواطئ السلطنة.
ويجري تنظيم رحلات سياحية لمحمية رأس الحد، ولكن وفق ضوابط واشتراطات تكفل الحماية والراحة لتلك السلاحف؛ حيث يُمنع على الزوار استخدام الأنوار أثناء الزيارة أو التقاط الصور؛ لأن الضوء يحول دون تعشيش أنثى السلاحف ويربكها.
ويتم توزيع الزوار على مجموعات صغيرة تذهب كلٌّ منها في اتجاه وبواسطة مصباح صغير يتلمَّس الزوار طريقهم على الشاطئ الرملي؛ حيث بالإمكان مشاهدة أعداد كبيرة من السلاحف المعششة في هدوء لا يقطعه سوى صوت الموج المتكسر على الشاطئ.
وتضع السلاحف بَيْضها ليلا في فصل الصيف، وتتم هذه العملية على حوالي 3 دفعات في الموسم الواحد تفصل بين كل دفعة والأخرى فترة أسبوعين تقريبا وعادة ما تعود السلاحف إلى نفس الشاطئ للتعشيش، وهي تقوم في عمل حفرة كبيرة في الرمال ناثرة التراب على مسافة بعيدة.
وتتزايد يوما بعد آخر طلبات التخييم في منطقة رأس الحد؛ بهدف الاستمتاع بأجواء جمالية وبديعة لا تتكرر.
ويسعى المسؤولون للتعاون مع سكان المنطقة والأهالي إلى حماية السلاحف من بعض الأنشطة مثل الصيد الجائر، وإبعاد شبح الموت عن أعداد كبيرة منها تقع سجينة داخل شباك الصيد.
ويعتبر الضوء أحد هذه العوامل الضارة؛ إذ يؤدي انتشاره في شواطئ التعشيش إلى الإضرار بالسلاحف البحرية نتيجة لما يسببه من تغيير في سلوكها؛ حيث اتضح أنَّ الإضاءة في الشواطئ تحول دون تعشيش السلاحف البحرية، وقد يؤدي التعشيش بالقرب من الشواطئ المضيئة إلى حدوث تأثيرات خطيرة على صغار السلاحف؛ ذلك أنها وبعد خروجها من البيض في الليل على الضوء الطبيعي للشاطئ تتحرَّك بطريقة طبيعية مباشرة نحو المياه، إلا أنَّ الشواطئ التي تكثر فيها الأضواء تقوم بدفع صغار السلاحف إلى تغيير وجهتها، وتكون بالتالي غير قادرة على الوصول إلى المياه؛ مما يُؤدي إلى ارتفاع معدلات موتها نتيجة لإصابتها بالجفاف أو افتراسها. ولهذا؛ تبقى مسألة زيادة وتنشيط السياحة في رأس الحد والتخطيط لإقامة مرافق سياحية مرتبطة بالقدرة على التوافق مع المتطلبات البيئية.