د. ماجد بن محمد بن سالم الكندي
الاستهلاك هو آخر الفعاليات الاقتصادية التي تبدأ بالتوزيع ثم الإنتاج ثم التبادل ويأتي الاستهلاك آخرها، والفعاليات الأولى تعتمد في هيكلها على الاستهلاك، فالاستهلاك إنما هو من يحدد الإنتاج، فإن توجه عموم الناس إلى الاستكثار منه في غير الضروريات والحاجيات زاد إنتاج الترفيات وتأثر الاقتصاد الكلي للمجتمع، وإن توجه الناس في استهلاكهم إلى الضروريات التي تشبع حاجات حقيقية ازدهر الاقتصاد وقوي.
والشريعة الإسلامية في نظرتها إلى الاستهلاك جعلته ضمن محددات ثلاثة لا يمكن للمؤمن أن يستهلك إلا وهو مستحضر لها وهي:
1- الاستهلاك في نظر الشريعة الإسلامية لا يراد لذاته ومجرد المتعة بل يراد منه أن يحقق منفعة للجسد تحفظ له وجوده كائنا قادرا على ممارسة واجب الاستخلاف لعمارة الأرض وجعلها ميدانا صالحا للحياة، والعمارة للأرض لا بد لها من جسد صحيح قادر وعقل واع ونفس مطمئنة، لذلك نجد الشريعة قد حرمت استهلاك كل ما يضر بالبدن أو العقل أو الروح كما قال تعالى (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وقال -صلى الله عليه وسلم- محرما استهلاك ما يضر بالعقل كما في حديث ابن عباس: لعن الله الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها وحاملها والمحمولة اليه وشاربها، ومما حرمه حفظا للروح وتزكية لها: نهى عن حلوان الكاهن، وقال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
2-الاستهلاك في نظر الشريعة الإسلامية لا بد من أن يراعى فيه سلم الأولويات، فلا يصح لإنسان أن يستهلك أشياء ترفية وكمالية في الوقت الذي يضطر فيه المجتمع إلى الضروريات وعن عائشة -رضي الله عنها-: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في غزاته فأخذت نمطا فسترته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم يعب ذلك علي"، لذلك لا بد من الموازنة بين الحاجات التي تستدعي استهلاكا معينا، ومن هذا الباب فيمنع الإنسان من الاستهلاك الكمالي إن كانت في حياته ضروريات لم يوف بها، فمن لم يكن له منزل وسط يؤويه وعائلته فيمنع من الاستهلاك في الكماليات سواء أكانت في الملبس أم المأكل أم المشرب، فيقدم بناؤه للبيت الوسط الذي يكفيه وأولاده على الأسفار السياحية الترفيهية، وتقدم عنايته بتعليم أولاده وإدخالهم في دورات تؤهلهم وترقى بهم معرفيا على أن يوفر لهم هواتف غالية الثمن ترفههم بالألعاب التي فيها، والقاعدة الفقهية الذهبية: لا يراعى تحسيني إن كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي إن كان في مراعاته إخلال بضروري.
3- المجتمع الإسلامي متضامن متكافل ومن هنا فليس من المقبول إسلاميًا أن يستهلك إنسان بل يمعن في استهلاك الترفيات وهو يبصر أخاه في الدين أو الوطن أو الإنسانية يتلوى من الجوع أو يرعد من البرد أو لا يجد ما يقيه حر الصيف، ومن هنا فالقاعدة الشرعية التي نص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-: ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يدخل عليها وجاء علي فذكرت له ذلك فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم قال إني رأيت على بابها سترا موشيا فقال ما لي وللدنيا فأتاها علي فذكر ذلك لها فقالت ليأمرني فيه بما شاء قال ترسل به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة".
الديون الاستهلاكية:
بعد ضبط الاستهلاك وأنه ليس متاحا في كل شيء يتبين أن الديون التي للاستهلاك لا يصح أن تكون في حاجات استهلاكية ترفية بل لا بد من أن تكون في حاجات ضرورية فقط وبقدر الحاجة لا أن يبالغ فيها، وذلك أن الاستدانة في النظر الشرعي أمر لا يتاح إلا استثناء وإلا فالأصل المنع منها فيكفي الدين سوءا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ من غلبة الدين وقهر الرجال، وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- امتنع عن الصلاة على من مات وعليه دين، وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم . قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف".
ومن السابق فخطوات الاستدانة الناجحة كما تراها الشريعة هي:
1- لا تستدن إلا لأمر ضروري فقط، وفي حدود الضرورة فقط، وهيئ أسرتك على الاقتصاد في النفقة حتى لا يعيشوا في الديون.
2- انوِ في نفسك بعد أن تقرر الاستدانة لأجل الضرورة أن ترد الأموال في أقرب فرصة فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه.
3-احرص على أن تؤدي الديون في أقرب فرصة ولا تتماد فيها فهي حقوق للآخرين.
4-لا تؤخر دينا أو قسطا عليك فإن تأخيره مع الزيادة فيه ربا لا يرضاه الإسلام.
أمين الفتوى - وزارة الأوقاف والشؤون الدينية