نعم قدَّمتُ استقالتي من وزارة التربية والتعليم.. ولكن لماذا؟!

د. خالد الجرداني

بداية؛ أودُّ أن أشكرَ وزارة التربية والتعليم، وكلَّ من ساعدني في فترة عملي كمعلِّم لغة إنجليزية، ومعلِّم أول وعضو مناهج لغة إنجليزية، وقائم بأعمال خبير مناهج لغة إنجليزية، وأخيراً خبيرًا تربويًّا، على الدعم والتشجيع المتواصليْن بصُوْرة مباشرة -أو غير مباشرة- الأمر الذي كان له عميق الأثر في أن أصل إلى ما أنا عليه، سائلا الله التوفيق لي ولهم.

... قد يتبادرُ للكثيرين عند قراءتهم لعنوان المقال أنَّني بصدد نقد لاذع للمؤسسة التي كنت أعمل فيها، وأنَّ الشخصنة والشكوى وكشف الأقنعة ستكون مُلهِبَة للمقال، ولكن هذه الكلمات التي أسطِّرها ليست سِوَى هَمٍّ لاعج، لم أجد سبيلا لكتمه للأمانة أمام الله -عزَّ وجل- والوطن، لعلِّي أجد في حر صفتحها من يَرَى فيها من أهل القرار ضالة ولو بسيطة لتطوير العملية التعليمية بالسلطنة؛ لذا أبثها وأهم بشجونها وكأنَّ الليالي تطاردني عن كونها وأطارد. كما أنني كتبت ونشرت الكثيرَ من المقالات المرتبطة بالعملية التعليمية على مختلف أصعدتها وأنا على رأس عملي. ولكنني أذكِّر نفسي مرة أخرى والقارئ الكريم "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".

لقد أنهيتُ الدكتوراة قبل عاميْن فقط في مجال تقويم المناهج وضبط الجودة، في أقل من 3 سنوات من جامعة مرموقة في ماليزيا، إن لم تكن الأفضل هناك؛ وذلك بعد دراستي للماجستير والبكالوريوس في جامعتي بيرمنجهام وليدز البريطانيتين، مع العلم بأنَّ دراستي للماجستير والدكتوراة كانتا على حسابي الخاص، كما أنَّني عملتُ في قسم اللغة الإنجليزية بالمديرية العامة لتطوير المناهج لما يربو على التسعة أعوام في وظائف متدرجة.

وطوال تلك الأعوام، كنتُ أستشعر الثغرة والحلقات المفقودة في مسيرة التعليم والخطط، إلى أن أصبحتْ ماثلة للعين في نواح كثيرة منها، وحاولتُ -وكثيرون غيري- أن نبيِّن ذلك للمسؤولين، ولكنني أضحيت كقول الشاعر:

وحيَّدا من الخلان في كل بلدة...

إذا عظم المطلوب قلَّ المساعد

ولعلِّي أوجز هنا بعضَ تلك الأمور التي دعتني للاستقالة، ليس من باب الهروب والتقاعس، ولكن لأنها شكَّلت بيئة يصعُب العمل فيها بأمانة وإخلاص وقناعات صادقة:

1- عملية التطوير جزئية، مبنيَّة على التضخيم الإعلامي، ولا أثر إيجابي لها على الواقع؛ ومثال ذلك: مشروع المعايير الذي تتغنَّى به الوزارة حاليا، ومشروع إستراتيجية للقراءة وأخرى للكتابة، ومشروع لتطوير المعلم؛ حيث إنَّ كلَّ مشروع منها يصدح في واد بلا تكامل أو تقاطع بينها.

2- عملية تطوير التعليم مبنية على الارتجالية، وليست على أسس علمية واضحة، ومراجعة وتطويرمستمرَّيْن.

3- لا توجُّه لإبقاء الكفاءات المتميزة في الوزارة؛ فلا تشجيع معنوي ولا مادي، وإن بدأت بالنقاش والسعي للتطوير تُهمَّش؛ فخروج كفاءات استفاد منها غير المعلوم عند الجميع، والأسماء معروفة على مستوى حملة الماجستير والدكتوراة.

4- لا يتم التعامل مع المشكلات التربوية الوطنية بشيء من الواقعية؛ فالإعلام التربوي يُغطِّي على الحقائق والنتائج؛ فإشكاليات اللغة العربية والتربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية والمهارات الحياتية واللغة الإنجليزية...وغيرها لا يُلقى لها بال إلا بتقويمها دون القيام بعمل بحث حقيقي واضح المعالم وفق مصفوفات المدى والتتابع والوثائق (إن وجدت أصلاً).

5- لا تظهر الكثير من البحوث المتعلقة بالتربية؛ فإنْ ظهرت تُتناسى إلى أن تفقد مصداقيتها، وأهم شي أنَّ الركب يمشي بالصحيح والسقيم.

6- كلُّ ما تقدمه من مقترحات للتطوير يُتعامل معه بشيء من الاستخفاف والتبسيط والتناسي، لا تطوير من غير المسؤول؛ فهو المطور والناشط في التطوير فقط، وما دونه من الخبراء وأعضاء المناهج مُنفِّذون أو مطبِّلون، والناصح منهم يحجم أو يقزَّم.

وبشيء من التفصيل، يُمكنني ذكر بعض ما دفعني إلى الاستقالة؛ وأهمها: أنَّ عملية التطوير التي يُسمع عنها من الحين للآخر انعكاساتها غير واضحة في بعض المجالات، ويظل لدى المدارس مبادرات خاصة بها تُحاول من خلالها حلَّ بعض مشكلاتها وهمومها، وكلُّ هذا يعتمد على الكادر في هذه المدارس؛ فمن اجتهد وتعب حل بعضًا من هذه المشكلات. أما الآخرون، فلا يُحركون ساكنا.

ولعلَّ مُشكلة ضعف المستوى لدى الطلاب الذكور أمرٌ مُهمٌّ يعرفه الجميع، ولكن ماذا قدمت الوزارة من أجل مساعدة المدراس في هذا الأمر. وهنا، أترك الجواب للمعلمين وللمدارس للإجابة عن هذا الأمر وأمور أخرى ستُطرح في المقالات المقبلة.

لا يُمكننا حلِّ مُشاكلنا التربوية بالتغطية عليها وبمشاريع ذات زخم إعلامي لا أثر لها في الواقع، وليس الارتجالية ورَكْن المواضيع للجان التي ستكون السوبرمان الذي يحل كلَّ المعضلات، في حين أنَّ الكثيرَ من القضايا بحاجة إلى بحوث ودراسات جذرية علمية، تعرض نتائجها بكل شفافية للاستفادة منها والتطوير على أساسها بعيدا عن خبرات الزملاء التي هي نتاج خبرات متراكمة جيدة، ولكن دون التأكد منها وتحليل الواقع والمستقبل الذي نصبو إليه لذا فمحلنا سر.

مثال بسيط للارتجالية الجلية: موضوع مسابقة المحافظة على النظافة والصحة في البيئة المدرسية؛ حيث التطوُّر أو التحور الذي صار بها أضحى بحاجة ماسة إلى مراجعة بشكل علمي، يأخذ بعين الاعتبار الأهدافَ العامة وطرق التقييم التي أفرزتْ مُمارسات غير ملائمة، وكل ما يتعلق بنشأتها وتطورها. سيما أن المسابقة تبدأ مع بداية كل عام دراسي وتنتهي بنهايته أي انها تُؤثر بشكل كامل على الفترة المخصصة للتعليم والتعلم، بينما النظافة هي سلوك يمكن أن يضم إلى قائمة طويلة من سلوكيات ومهارات ومعارف يكون الطالب بحاجة إليها جميعا، ولكن بمستويات مختلفة مبنية بشكل واضح في وثائق المنظومة التعليمية بأكملها (المقال بأكمله عن المسابقة تجدونه في https://khalidjardani.wordpress.com/).

ومثال آخر: تعامُل الوزارة مع امتحانات مثل (Timss) سيما هذا العام يُذكرني بأولياء الأمور الذين نسوا أبناءهم لفترة طويلة إلى أن قرب الامتحان، وبدأوا في الوقت الضائع بالتشجيع والتحفيز لعلهم يصلون إلى مستوى مقبول، والمستهجن أنْ يكون هناك إعلام قوي مُؤدلج وفق مرئيات أصحاب القرار في تلك الفترة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي واللوحات، ومثال ذلك: لوحة مفادها "أداؤك الجيد في "تيمس" بأنَّ عُمان تفتخر بك".. كيف نفسر ذلك؟

بالمختصر.. هذه تساؤلات عن واقع التعليم في السلطنة والحاجة إلى إعادة النظر فيه.

ومن خلال تتبُّعي الكفاءات المتميزة في وزارة التربية والتعليم، خاصة إذا ما ركزت على المديرية العامة لتطوير المناهج، نجد خبرات غادرت المديرية وهم في سن مُنتج وقابل للتطوير وبلورة الأفكار، ومعظمهم من حملة شهادتي الماجستير والدكتوراة؛ سواء من مكتب المدير العام والدوائر والأقسام التابعه لها، ولعلَّ خُروج مُديري عموم من حملة الدكتوراة، يحمل في طياته تساؤلات عديدة، إضافة لأعداد كثيرة من أقسام متعددة وهم يعملون الآن في مؤسسات مختلفة في السلطنة أو خارجها، ويقدمون إبداعات واضحة في تلك المؤسسات التي انتقلوا إليها من الفترة من 2010-2015م ويمكن التوضيح بأعداد تقريبية كالتالي:

الوظيفة

الشهادة

العدد

مدير عام

الدكتوراه

2

نائب مدير عام

الدكتوراه

1

خبراء

الدكتوراه

2

مدير دائرة

الماجستير

1

رؤساء أقسام

الماجستير

2

أعضاء مناهج

الماجستير

3

إلى جانب ذلك، يُمكن التساؤل عن أعداد الخبراء والمستشارين التابعين للوزارة وللمديريات التعليمية: لماذا هذه الكثرة؟ ولعل مثالَ المديرية العامة لتطوير المناهج خيرُ مثال؛ حيث تمَّ تعيين 8 خبراء مؤخراً تابعين لمكتب المدير العام، ألم يكن من الأفضل تعينيهم في الأقسام التي كانوا قد عملوا فيها كخبراء مواد مع وجود أعداد أخرى كخبراء بالمديرية؟ علما بأنه لا يكاد توجد أعمال لهم، ويمكن إثبات ذلك بشكل سهل؛ حيث إنَّني أحدهم. رغم أنه كان من الممكن أن أكون خبيرا لمناهج اللغة الإنجليزية بعد قضائي بالقسم أكثر من 9 سنوات، ولا يوجد خبير بالقسم الآن، مثل هذا الموضوع يطرح الكثير من التساؤلات، مع العلم بأنه لا يوجد في كل الأقسام خبراء مواد تعليمية.

... إنَّ خبرتي كقائم بأعمال خبير مناهج لغة إنجليزية (تكليف شفهي) وقبل الاستقالة كخبير تربوي بقرار وزاري، يمكن أن يبيِّن مقدارَ عدم الوضوح في عملية بناء الكفاءات وتعزيزها. فكلُّ ما تقدمه من مقترحات للتطوير يُتعامل معها بشيء من الاستخفاف والتجاهل كما أسلفت؛ حيث لا تطوير من غير المسؤول فهو المطور والناشط في التطوير فقط وما دونه من الخبراء وأعضاء المناهج وغيرهم أدوات مسيرة.

إنَّ حلقات التواصل في المنظومة التعليمية تكاد تكون مبتورة؛ فمثلا توجد لجان مُتعدِّدة تجدُ نفسك كخبير لا تعرف عنها شيئا؛ كمثل: زيارات مجالس التعليم والشورى التي لا نسمع عنها إلا من خلال قنوات التواصل الإجتماعي؛ ومثال ذلك: لجنة الخطة الدراسية التي لا نعرف كيف تعمل! ومن ثمَّ تصدم الخبراء وأعضاء مناهج المواد بقرارات لا نعرف حتى لماذا أو كيف أو على أي أساس بُنيت، وكل ما في يدك هو التسليم بالأوامر العليا كنص مقدَّس.

ولعلِّي أعرِّج على موضوع مهم؛ وهو: موضوع البحوث وأهمية القيام بها والسعي في بنائها وتطبيقها ومراجعتها وتقييمها بمصداقية وحرفية، بعيدا عن أهواء المسؤولين في الوزارة أو المناطق التعليمية؛ من أجل مصلحة الطالب والمجتمع وبالتالي عمان الحبييبة.

اطلعتُ شخصيًّا على بحوث متعلقة بوضع التعليم في السلطنة، ولكن لا يوجد من يدرس هذه البحوث، ويبني عليها من أجل التطوير الصحيح، إلى أن تذبل هذه البحوث والدراسات وتفقد مصداقيتها.

وكانت لي تجربة لبحث بعنوان "دراسة توقعات واحتياجات المؤسسات الأكاديمية إلى مستوى اللغة الإنجليزية ومهاراتها عند خريجي التعليم ما بعد الأساسي في سلطنة عمان"؛ تهدفُ الدراسة إلى التعرف على الفجوة بين توقعات واحتياجات المؤسسات الأكاديمية إلى مستوى اللغة الإنجليزية ومهاراتها في التعليم الجامعي وواقع طلاب الصف الثاني عشر المنظمين إلى مؤسسات التعليم العالي في السلطنة. وبما أنَّ وزارة التربية والتعليم تعمل حاليا على إعادة تطوير التعليم -من خلال بناء معايير جديدة للمناهج تدمج فيها المعرفة والمهارة في المواد الدراسية- فمن الواجب التحقُّق من احتياجات المؤسسات المعنية بالأمر من التعليم ومخرجاته؛ وذلك في سبيل إصلاح التعليم، خاصة مع العلم بأنَّ خرِّيجي طلاب الصف الثاني عشر يلتحقون اليوم بالمؤسسات الأكاديمية، وهم لا يمتلكون المعرفة والمهارة الكافية في اللغة الإنجليزية.

ومن أجل بناء معايير مناهج جديدة، كان لزاما علينا بحث هذا الموضوع بشكل منهجي، مع عدم توافر بحوث كافية حول هذه الفجوة وسبل علاجها؛ لذلك فإنَّ هذا البحث يهدف للتعرف على هذه الفجوة، وتحديد المواضيع والمهارات غير الموجودة أو غير المتعرَّض لها بشكل كاف في مدارس التعليم الأساسي وما بعد الأساسي؛ من أجل مساعدة خريجي التعليم المدرسي ليكونوا أقرب لاحتياجات المؤسسات المعنية بالأمر "معاهد وكليات وجامعات"؛ (تفاصيل البحث موجودة في https://khalidjardani.wordpress.com/).

وبالرغم من أهمية البحث والقيام به بشكل عاجل إلى جانب الحاجة للقيام ببحث آخر يختص بالقطاع الخاص واحتياجاتهم وتوقعاتهم من أجل البناء عليها وعرضه للمسؤولين أيضا، إلا أنني لم أجد الدعم الكافي للقيام به. والتساؤل: كيف يتم بناء الوثائق الدراسية إذا لم تراع احتياجات الآخرين؟

تعليق عبر الفيس بوك