مدينة تحت مدار السرطان (2-2)

أحمد الرحبي

حول قسوة الطقس في مسقط، كنا قد توقفنا في الجزء الأول من هذه المقالة عند جزئية أنّه من خلال كتابات الرحالة والمستكشفين بإمكاننا الاطلاع على وصف المعاناة التي كان يعيشها الأجانب خاصة الغربيين، من صعوبة الطقس الحار في مسقط، وأكثر ممن كانوا يعيشون هذه المعاناة اليومية للحرارة بصبر ما أسرع أن ينهزم أمام شدة الحرارة وقسوة الجو فيلجأون مضطرين لتمضية باقي النهار في المياه المنعشة للبحر، هم القناصلة المقيمون في مسقط بحكم مهامهم الدبلوماسيّة الموكولة إليهم من قبل دولهم التي يمثلونها، والكثير من هؤلاء القناصلة كانوا يذهبون ضحية لمعاناة الحرارة الشديدة لجو مسقط في الصيف، وذلك إمّا بضربة شمس أو بأزمة قلبية كما تشير إلى ذلك بعض المصادر التاريخيّة.

هذا ما سجل على ذمة التاريخ بالنسبة لقسوة الطقس في مسقط، لكن مع النهضة العصرية والعمرانية التي عاشت طفراتها المدينة بشكل متسارع منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، شكلت الكهرباء التي أنارت بيوتها الحديثة الطراز، وأجهزة التكييف، وكأنّها الحل الناجع لمعضلة الحرارة الشديدة المرتفعة في مسقط، فكانت ثقة المخططين لمدينة مسقط كبيرة لا تحدها حدود في الكهرباء وأجهزة التكييف إلى درجة استبعاد أية مقترحات أو حلول أخرى بديلة من شأنها تخفيف جحيم الحرارة على المدينة، فالثقة المبالغ بها في الكهرباء هي في نظري الدافع لارتكاب خطأ شنيع في تخطيط مدينة مسقط حيث تتمثل شناعة هذا الخطأ في جعل المدينة تولي ظهرها لواجهتها البحريّة، وإقفال هذه الواجهة بشكل تام بصفوف متعاظمة من البنايات الكنكريتية المتلاصقة فوق بعضها البعض، حيث يبدو أثر هذا الخطأ واضحا في الجهة الشرقية من المدينة خاصة، وهذا الخطأ بدوره أدّى إلى خطأ أو نتيجة أشنع من الأولى، وهو حرمان مدينة مسقط من أن تكون لها واجهة أصلا، كبقيّة المدن، فمن جهة هناك الجبال التي تشكل حائطا طبيعيا ومن جهة أخرى البحر الذي حيل بين المدينة وبينه بأسوار من العمارات المتلاصقة سادة الأفق الطبيعي المفتوح على البحر، والذي يمثل للمدينة أكثر من كونه شاطئا خلابا ومجرد واجهة بحرية، بل هو رئة المدينة التي تسمح للتيار الهوائي الرطب القادم من جهة الشمال (ناحية البحر) بأن يخفف من غلواء الهواء الجاف وشديد الحرارة القادم من جهة الجبال، ويلطفه قليلا.

ونفس الثقة العمياء في الكهرباء جعلت المخططون يستبعدون إمكانية الاستفادة مثلا من المكون أو الطابع الزراعي الريفي للمدينة وضمه ضمن مخطط المدينة الواسع، فعلى سبيل المثال يتم التواطؤ بشكل سافر مع ملوحة الأرض والبوار الناتج عن ذلك لترك النطاق الريفي لولاية السيب والذي كان في السابق يشكل بمزارعه التقليدية الخصبة الجميلة مصيفا مرموقا لأغنياء المدينة، نهبا للإهمال ولتعديات سماسرة الأراضي والانتهازيين من مقاولي البناء والمتاجرين في السوق السوداء بالأراضي والعقار.

ومن المفارقة المضحكة أنّه لدى الاطلاع على معايير البناء والتشييد المعماري المتبعة في مسقط، نجد أنّ هذه المعايير لا تساهم أبدًا في حلحلة إشكاليات ولا في وضع تصورات للتعامل بشكل إبداعي ذكي مع التحديات التي يفيض بها المكان وطقسه، إذ أننا نجد هذه المعايير في أغلبها إجرائية وينصب تركيزها على الإلزام الشكلي بالتقيد بكلاشيهات موحدة بالنسبة لشكل البناء وواجهاته، تغلب عليها الأقواس والقناطر، والتي توصف دائما بأنّها عاكسة لهوية المدينة العربية والإسلامية، أمّا المعايير الهندسية الحقيقية التي تراعي روح المكان وتأخذ في الحسبان الإشكاليات والتحديات التي ما فتئت المدينة وسكانها يعانون منها أشد المعاناة، فنتصور أنّها لن تكون مطروحة بشكل قوي إلا إذا جاءت في سياق حركة مراجعة وتطوير (كي لا نقول تصحيح) تنبع بوادرها من الأجهزة المعنية بتخطيط وتطوير مدينة مسقط، متيحة لنفسها عند ذلك التخلص من عبء التراكمات الثقيل من الأخطاء والتي هي في الحقيقة نتيجة تناسل مرحلي مكثف من الفشل والأخطاء المريعة التي توارثتها كل مرحلة عن سابقتها ضمن تركة وعملية ميراث شرعية، ميراث خلف عن سلف.

فخلال الانبثاقة العمرانية الحديثة لمسقط لم يراع ولم يعط كبير اهتمام مطلقا في أثناء وضع المخططات الهندسية والمعمارية المرافقة لحركة توسع مساحة المدينة وتمددها وصولا للرقعة الكبيرة والشاسعة التي تمثلها مسقط في الوقت الحالي، أدنى المعايير التي تأخذ في الحسبان الظروف الجغرافيّة والمناخيّة الحارة التي تميز موقع المدينة في إقليم صحراوي قاري يفيض بقسوته فلم يضع المخطط المعماري في باله أو أنّه لم يخطر على باله بالمرة أن يكون في الدرجة الأولى في التخطيط الاعتماد على اتقاء هذه القسوة للمناخ أو حتى تحييدها وفق استنباطات وحلول هندسيّة كثيرة باتت تفيض بها عبقرية الهندسة الحديثة حيث أصبحت مطبقة بشكل نموذجي في كثير من المدن ذات البيئات الصحراوية القاسية في العالم، وهي استنباطات وحلول تشكل خبرة تراكمية عميقة في التخصص الهندسي والعمراني، وأقرب مثال يضرب على ذلك هو تجربة المهندس العالمي المصري حسن فتحي والذي تميّز في أفكاره الهندسية بوضع حلول ناجعة للمشاكل والصعوبات البيئية وذلك بالاعتماد على مواد البيئة المحلية وخاماتها المتوافرة، وعدم الأخذ في الحسبان عند تخطيط المدينة خلال مراحل توسعاتها المتوالية، قسوة المناخ في المكان وشدة الحرارة فيه طوال شهور السنة، حرم مدينة مسقط من أن يكون لها نطاق عام ملائم ليقضي فيه السكان أوقات ترفيههم بعيدًا عن الملاذات المكيّفة الهواء في البيوت والمكاتب والمجمّعات التجارية، فنحن في مكان كمدينة مسقط يشهد حرارة شديدة طوال السنة، بحاجة إلى توظيف الظلال في التصميم المعماري والاستفادة في النطاق العام للمدينة مثل بناء البيوت والمنشآت المعمارية بزاوية معينة تتيح استغلال الظلال إلى جانب تزويدها بالمصاطب المظللة، مع دمج مشاريع التشجير مع كتلة المباني لخلق مماش ومساحات مظللة، وهذه الحلول تقلل من استهلاك الطاقة وتجعل القاطنين أكثر مقدرة على التعايش مع حرارة الشمس والصيف الشديدة في النطاق العام للمدينة.

إننا بحاجة إلى هندسة مدن طليعية تعمل على الاستفادة من الظلال وليس النسخ لتجارب جامدة لا تقدم الحلول وإنما تضاعف من معاناتنا مع الشمس والصيف طوال أشهر الصيف الطويلة في هذه المدينة.

تعليق عبر الفيس بوك