أزمة ذاكرة!

ناصر محمد

نملك جميعًا ذاكرة، ولكنّها ليست دائمًا متساوية في النشاط، فكلما كانت الذاكرة واسعة كان لأصحابها القدرة على استحضار مراحل حياتهم المملوءة بمشاعر الدهشة والخوف والحزن والفرح والألم، وكذلك تذكر الماضي بكل أبعاده من التغيّرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأن الحياة في حقيقتها تقع بين التأثير والتأثّر، وليست مفهومًا ثابتًا لا يتغير.

بينما تأتي الكارثة عند أصحاب الذاكرة المحدودة، الذين يرون إلى الأشياء بطريقة لا تاريخية. فهؤلاء "اللا تاريخيون" ينظرون إلى الماضي بحسب الذاكرة اللحظيّة الآنية، فإذا كانت الذاكرة اللحظية الآنية مثلا ذاكرة "دينية"، يكون النظر إلى الماضي على أنه صراعُ أديان وطوائف ومذاهب دون استحضار ظواهر ومتغيرات أخرى مصاحبة، وإذا كانت الذاكرة الآنية ذاكرة "قوميّة"، فإنّ كلّ حوادث الماضي هو صراعُ أعراق وإثنيات وشعوبية، أما إذا كانت الذاكرة الآنية ذاكرة "اقتصادية" فإن كلّ ما حصل في التاريخ هو صراع طبقات بين العمال وأصحاب العمل مع اختلاف المصطلحات عبر التاريخ!

لم تَفُتْ هذه الرؤية الأديب اللبناني صاحب الجنسية الفرنسية "أمين معلوف"، فقد ذكر في كتابه "اختلال العالم" هذه الحقيقة بخصوص تطرف الأديان وتسامحها حين قال: إنّ الشعوب هي التي تصنع دينها! فهي التي تجعله متطرفا كما أنّها هي ذاتها تجعله متسامحًا، وهذه الرؤية التاريخية لمعلوف لا تُقبل أو لا تسعفها الذاكرة من قبل "اللاتاريخيين" الذين يرمون الأديان بتهمة التطرّف الدائم دون فصلها عن الخطاب الديني السائد. كما تنبه إلى ذلك المفكّر السوري "جورج طرابيشي" في كتابه "مذبحة التراث" حين وضع يده على التراث العربي بعيون مفكريه، فمن المفكرين من رأوا للتراث بنظرة دينية ومنهم من رآه بنظرة قومية وآخرون بنظرة علمية فقط، وما كان لطرابيشي إلا أن يسوّي هذه التضاريس المفتعلة من قبلهم وذلك بإبراز ما تم تهميشه من التاريخ، وتوسيع الذاكرة التي قلّصتها تلك الذاكرة المتعصبة المحدودة.

ربما ليس غريبا على الإنسان أن يحظى بهذه الذاكرة السحرية الخارجة على التاريخ والواقع، فـ "سيجموند فرويد" في تحليله النفسي يؤكد على أنّ الأطفال، في مراحلهم المبكرة، ينظرون إلى الكلمات والأشياء على أنّها كائنات سحرية موجودة بذاتها دون تدخل أحد، ولهذا تبدأ الإشكالية عند الطفل حين يبدأ بالإدراك أنّ الواقع يؤكد له خلاف ما كان يظنه، فالموت موجود، والرعاية التي يحظى بها سوف تتلاشى تدريجيا حين يبدأ النظر إليه على أنه راشد ومستقل بذاته. ولهذا فإن لم يصاحب تلك التجربة مع الحياة نوع من الإدراك الناضج و الرضا لرؤية الأشياء بمثل ما هي تمهيدا لتجاوزها لاحقا، فإن النتيجة هي تقلص الذاكرة وعدم القدرة على الربط بين الأسباب ومسبباتها، والذي سيؤدي إلى تشكل ذلك الوعي المملوء بالكراهية والعنف والنزق، ويكون الصبر رذيلة من رذائل الماضي!

ولمحدودية الذاكرة مساوئها في عدم التركيز على الأولويات والالتفات إلى الأمور الثانوية التي تؤخر النظر إلى الموضوع وإيجاد حلول له. فمرض الإيدز مثلا حين تم تسجيل أول حالة له عام 1981م في أمريكا، تمّ النظر إليه من نظرة دينية - خاصة أن تلك الفترة هي فترة صحوة الأصوليات وانهيار الأيديولوجيات- وذلك بربطه بالمثليين جنسيا، إلى أن تفشّى المرض إلى كل الشرائح بسبب عدم الالتفات إليه، ونُبذ حاملو فيروسه اجتماعيً،ا واعتبار هذا المرض نقمة إلهية! كما أن الاقتصاد كان له نصيبه من التأثّر وذلك بزيادة الرعاية الصحية للمصابين ونقص القوى العاملة، ومن الطريف أن يُلزم عدد من زعماء الديانات أتباعهم بعدم لبس الواقي الذكري واستخدام أدوات منع الحمل وذلك لعدم التدخل البشري في الحمل ذي الشرط الإلهي؛ مما فاقم في ظن بعض العلماء من انتشار الإيدز في العالم بطريقة مرعبة!

تعليق عبر الفيس بوك