مدينة تحت مدار السرطان (1-2)

أحمد الرحبي

في أثناء أشهر الصيف قاسية الحرارة التي تئن فيها مسقط تحت وطأة درجة حرارة تشارف الــ 50 درجة مئوية، يمكنك مشاهدة ألسنة السحب الركامية الناصعة البياض البراقة تحت أشعة شمس الصيف المتوهجة من مسافة قريبة من ناحية الجهة الجنوبية للمدينة تغطي امتداد السلسة الجبيلة لجبال الحجر والتي تشهد دائما في هذه الفترة هطولا مطريا على قممها بفعل السحب الركامية في فصل الصيف، كما يمكن مشاهدة البروق تومض فوق هذه الجبال في ليل المدينة الحار والخانق الرطوبة، الأمر الذي يشكل مفارقة عجيبة في الصيف الذي يخض هذه المدينة بقسوته وتطرف درجات حرارته.

فمسقط برغم تميزها بإطلالة بحرية واسعة يمكننا القول بأنها من المدن التي تعتبر جبهة متقدمة من جبهات الصيف شديد الحرارة في المنطقة، فبرغم كون هذه المدينة تعتبر مدينة ساحلية مفتوحة على شاطيء بحري طويل إلا ان المناخ الصحراوي والقاري الذي يميز المكان الواقعة في نطاقه مدينة مسقط يجعل البحر مجرد استثناء لا تأثير له في ظل ثوابت المناخ الصحراوي والقاري التي تكتنف المكان وتجعل منه مسرحا مفتوحا دائما أو شبه دائم للطقس الحار الزائد عن الحد إذا ما استثنينا ثلاثة أشهر من السنة، المفتوحة بطولها على أتون الشمس شديدة الحرارة وصعوبة الجو برطوبته الخانقة، والتي بالكاد تنخفض فيها درجات الحرارة لتعطي إيحاء بربيع هش سرعان ما يقتحمه جحيم الصيف جاعلا الأمور تعود إلى نصابها المعتاد. في هكذا مناخ صحراوي وقاري يفيض بصعوبته وقسوته، وحيث إن النطاق الجغرافي الذي تتموضع فيه مدينة مسقط لا يمكن في الحقيقة أن يرتجى منه غير ذلك، مهما حاولنا التجميل للحقائق الآنفة الذكر، وصياغتها بطريقة رسمية مخففة كما يوجد في النشرات والكتيبات السياحية، فإن مسقط تعتبر بحق من أكثر البقاع الجغرافية حرارة في العالم، فنظرا إلى وقوع المدينة بشكل مباشر على مدار السرطان والذي هو يعتبر من أشد المدارات حرارة، يجعل هذه المدينة في وجه صعوبة الجو وقسوته أغلب شهور السنة، فالمكان هنا مفتوح بشكل شبه دائم للهيب الحرارة التي تنتج بفعل اشعاع قوي متوهج لشمس وصفها احد الرحالة الغربيين الذين زاروا المنطقة بأن الشمس هنا بإشعاعها وطاقتها تكفي لعشر مدن، هذا إلى جانب الهواء الساخن القادم من تخوم الصحراء الذي تتصاعد وتيرته بشكل قاس ومؤذي حيث يغدو المكان اشبه بمحمصة في عز توهج الأتون الشمسي في الصيف خاصة في شهري يوليو وأغسطس، يضاف إلى ذلك كله تأثير الرطوبة الخائفة القادمة من جهة البحر والتي تجعل المكان أشبه بقدر حساء ساخن أو أشبه بحمام تركي، فكون مسقط كمكان يقع بشكل طولي محصور من جهة، بين البحر ومن الجهة الأخرى بين جبال وقيعان جرداء يجعلها تختزن الحرارة بلا منفذ للتخفيف من شدتها وغلوائها سواء الحرارة الناتجة عن الشمس وتوهجها أثناء النهار التي تختزنها الجبال المحيطة بالمدينة لتبثها بشكل مضاعف في المساء، أو الحرارة الناتجة بفعل الرطوبة الخانقة المحصورة فوق المدينة ما بين الحائط الجبلي من الجهة الجنوبية والبحر الذي ينفث من حلقه الرطوبة من الجهة الشمالية للمدينة فيجعلها في عز تصاعد الرطوبة وتكاثفها على سطوح المدينة أشبه بقدر ماء يغلي.

إن اختيار المكان لتنبثق فيه مدينةٌ ما أو حلول تجمع سكاني في أرجائه مشكلا مجتمعا سكانيا يقوم بالدرجة الأولى ليس على ملاءمة المناخ من عدمه، ولكنه يقوم بالدرجة الأساس على الشروط الملائمة لممارسة نشاط بعينه وهو الأمر الذي يمثل الجاذب الاقتصادي الذي يدخل في تشكيل أي مجتمع من المجتمعات في التاريخ ويوفر له ضمانة النجاح، وهذا بالنظر إلى كون أن العامل الاقتصادي هو دائما ما يسبق العامل الاجتماعي في تكوين المجتمعات ونجاحها كتجربة إنسانية خطا خطواتها الإنسان في سلم ارتقائه الحضاري، أو أن العامل الاقتصادي في الواقع هو ما يشكل الحاضنة والممهد للعامل الاجتماعي بالنسبة لمراحل الاستقرار الاجتماعي دائما، وبالنسبة لمسقط كمكان شكل البحر الذي تطل عليه بكل ما توفره الطبيعة والتضاريس الجبلية والتقاءها مع ساحل البحر من خلجان وملاذات آمنة للسفن، شكل الشرط الاساسي لقيام تجمع سكاني في هذا المكان وتجذره هنا منذ فجر التاريخ، معتمدا في نشاطه للاستمرار على التجارة والابحار، حيث تقع مسقط كميناء بحري في الوسط في الطريق التجاري البحري والواصل ما بين الهند والصين والسواحل الافريقية، وبين حضارة ما بين النهرين، ونظير هذا الشرط الذي وفر للمدينة ومجتمعها السكاني الازدهار الاقتصادي لتطور المجتمع لم تكن تشكل عائقا ربما عوامل طاردة في المكان المسقطي والمتمثلة في شدة حرارة المناخ هنا، وربما شكل الرفاه الاقتصادي المتأتي من نمو المعاملات التجارية والارباح الناتجة عن نمو هذه المعاملات، في خلق تكيف السكان مع شدة المناخ وصعوبته عبر تقنيات واستنباطات محلية في تقنية البناء والمرافق في هكذا جو صعب وقاسي المناخ.

ومن خلال كتابات الرحالة والمستكشفين بإمكاننا الاطلاع على وصف للمعاناة التي كان يعيشها الأجانب خاصة الغربيين، من صعوبة الطقس الحار في مسقط، وأكثر ممن كانوا يعيشون هذه المعاناة اليومية للحرارة بصبر ما أسرع أن ينهزم أمام شدة الحرارة وقسوة الجو فيلجأون مضطرين لتمضية باقي النهار في المياه المنعشة للبحر، هم القناصلة المقيمون في مسقط بحكم مهامهم الدبلوماسية الموكولة إليهم من قبل دولهم التي يمثلونها، والكثير من هؤلاء القناصلة كانوا يذهبون ضحية لمعاناة الحرارة الشديدة لجو مسقط في الصيف، وذلك أما بضربة شمس أو بأزمة قلبية كما تشير إلى ذلك بعض المصادر التاريخية.

تعليق عبر الفيس بوك