هل يمكن تعليم المواطنة؟

زينب بنت محمد الغريبية

هذا هو السؤال الجوهري الذي يواجهنا عندما نُفكر في علاقة التربية بالمواطنة، وعندما نجد الإجابة نعم، تبرز أسئلة أخرى: إذن ما هو مضمون هذه التربية؟ وما هو نوع المواطنين الذين نريد أن نعدهم؟ كيف تتم تلك العملية؟ إن مثل هذه الأسئلة تشير إلى أن هناك عدم اتفاق حول مفهوم تربية المواطنة بين المجتمعات، ويعود ذلك إلى الاختلاف بين المجتمعات في أنظمتها السياسية والاجتماعية، وفي فهمها للمواطنة، ففي الوقت الذي ترى فيه بعض المجتمعات أن المواطنة الصالحة هي الطاعة ترى مجتمعات أخرى أنها انتقاد السياسات من أجل تقويمها، ومجتمعات ترى أنها المشاركة الفاعلة، في حين نجد البعض يرى أنها الحصول على الحقوق من الدولة فحسب، وهذا الاختلاف يقودنا إلى القول بأن كل مجتمع لديه نمط من تربية المواطنة يختلف عن المجتمع الآخر، ولذا ظهر لنا في الأدب التربوي المرتبط بتربية المواطنة تمييز بين مصطلحات عدة منها التربية الوطنية، والتربية المدنية، والتربية من أجل المواطنة، أو التربية من أجل المواطنة النشطة.

المواطنة ليست قيمة تولد مع الفرد كما يسود الاعتقاد لدى بعض الباحثين، فهي في الواقع لا توجد بالسليقة والطبع، ولا تحدث قدراً واعتباطاً، ولا تمنح من مصدر خارجي، بل تكتسب اكتساباً شأن قيم الحياة الأخرى، وهذه ما يطلق عليه المواطنة المسؤولة، لأن المواطنة هي التي يحصل عليها الفرد نتيجة عضويته وانتمائه لدولة معينة، لكن لا يمكن أن يصل هؤلاء المواطنون إلى مستوى المواطنة المسؤولة دون قيامهم بواجبات المواطنة، وخدمتهم لمجتمعهم، وحفاظهم على وحدته الوطنية، من خلال تركيزهم على المشترك بينهم بدلا من تركيزهم على المختلف، وبالتالي لا يمكن للدولة الحديثة أن تتجاهل اليوم مقوماً أساسياً لتعزيز مشروعها التنموي والسياسي ألا وهو التربية من أجل المواطنة التي يقصد بها باختصار "العمل على مساعدة المواطنين للتحول من طور المواطنة إلى المواطنة المسؤولة".

لا يزال يُنظر للمواطنة على أنها هدف للمواد الدراسية ذات البعد الاجتماعي وهي الدراسات الاجتماعية، والتربية الإسلامية، واللغة العربية، والتربية الوطنية، ويكشف تتبع الدراسات التي أجريت خلال العقدين الأخيرين عن أن هذه المواد لا تزال هي المحاور المسؤولة عن تعزيز المواطنة، إلا إنّ إعداد مواطنين فاعلين ونشطين، قادرين على المشاركة بوعي في الحياة العامة، لا يمكن أن يتم من خلال توظيف مدخل معرفي فقط وفي مجال المساق أو المقرر الدراسي يقوم على تزويد الطلبة بكم كبير من المعلومات عن تاريخ بلدهم وجغرافيته وحقوقهم ومؤسساتهم وما يجب عليهم أن يقوموا به فحسب، فمثل هذا المدخل يعتبر مدخلا تسلطيا وكأنه بالفعل عملية "تعليم بنكي" يقوم على إيداع معلومات في عقول الطلبة دون أن تتاح لهم فرص نقدها ومناقشتها، وممارستها.

ومن هنا لابد أن نضع في اعتبارنا بقية الأقطاب في العملية التعليمية وأهميتها في إتمام عملية إكساب وتعزيز المواطنة، وأولها المعلم حيث إنه يلعب دوراً محوريا في بناء المواطنة الإيجابية من خلال تجسيده للقدوة في سلوكياته من ناحية، واعتباره الناقل الرئيسي لهذه المعرفة للطلبة من ناحية أخرى، ورغم أهمية المعلم إلا أن الدراسات العربية لا تزال تعطي اهتماماً كبيرا لتصورات المعلمين عن المواطنة وكيفية تعزيزها من خلال المنهج المدرسي، وكذلك لدرجة رضا المعلمين وتأثيرها في انتماء المعلمين لمهنة التدريس، ولا شك أنّ تمكّن المعلم من قيم المواطنة يوّلد لديه اتجاهات إيجابية نحو المنهج ودافعية أكبر لتنفيذه.

والصف الدراسي يعد قطباً مهما آخر في هذه العملية، فيحتاج تعزيز المواطنة إلى إحداث تحول في الصفوف الدراسية وفق أساس ديمقراطي يقوم على مبادئ وقيم الحرية والعدالة والمساواة، حيث ينظر إلى المدرسة بأنها مجتمع ديمقراطي صغير تحدث فيه كثير من التفاعلات التي تدور في المجتمع الكبير، فيتم تجسيد ممارسات المواطنة المبنية على الحقوق والواجبات في هذه الفصول الدراسية، إن الفصل الدراسي الذي يقوم على الديمقراطية يتيح للطلبة مناقشة قضايا متعددة، وأيضًا يمنح الطلبة حرية التصويت على بعض جوانب التعلم مما يعلم الطلبة كيفية تحمل المسؤولية، ولقد حددت ثمان خصائص للصف الدراسي الذي يساعد على تعليم المواطنة والديمقراطية - وفق نظريات المواطنة- وهي: المشاركة الفعّالة، تجنب التدريس المبني على هيمنة الكتاب المدرسي، التفكير التأملي، اتخاذ القرار، ومحاولة حل المشكلات من قبل الطلبة، القضايا الجدلية، المسؤوليات الفردية، الاعتراف بالكرامة الإنسانية، الارتباط بالواقع.

وبالتالي يبدو أن ثمة حاجة ماسة إلى تدعيم مناخ المدرسة من أجل تحقيق المواطنة الديمقراطية الناقدة لا سيما في اللحظة الراهنة التي يتعرض فيها المواطن إلى خليط متدفق من الرؤى حول الحكم والإصلاح بمختلف مستوياته، ويمكن هنا تبني بعض الرؤى المقدمة لإيجاد المدرسة الفعّالة في تعزيز المواطنة ومنها الآتي:

· تقديم تدريس رسمي معقول في مجالات بنية الحكومة، والتاريخ، والقانون، والديمقراطية، وحدود الحرية، فذلك يسهم في زيادة المعرفة المدنية التي لها أثر كبير في المشاركة السياسية على المدى الطويل، لكن ذلك التدريس يجب أن يتجنب تقديم الحقائق عن الإجراءات الجافة التي لا تؤدي إلا إلى إقصاء الطلاب عن المشاركة وإلا لن تصبح ذات فائدة لهم.

· تضمين مناقشة الأحداث الجارية بمستوياتها المحلية، والوطنية، والعالمية، وبالأخص الأحداث التي يرى الطلاب أن لها أهمية وأثرا في حياتهم، ولقد برهنت تلك الممارسات على تنمية اهتمام كبير بالسياسة، كما أنها ساعدت في تنمية التفكير الناقد، ومهارات الاتصال، وزيادة الاهتمام بمناقشة الشؤون والأحداث، والقضايا العامة خارج المدرسة بالإضافة إلى نمو المعرفة المدنية. ولكي يتحقق ذلك على المعلم أن يُدير المناقشة بشكل يُشعِر الطلاب بالحرية في مناقشة القضية من كافة جوانبها، وأن تُطرح وجهات نظر متعددة حيالها، وبصفة إيجابية.

· توفير فرص كافية للطلاب لتطبيق ما تعلموه في المنهج الرسمي ومن خلال التدريس الصفي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال مشروعات الخدمة الاجتماعية لما تتميز به من: تقديم خبرات للطلاب ذات معنى من خلال العمل في موضوعات مهمة تهم المجتمع، إتاحة الفرصة للطلاب لاختيار مشاريعهم الخاصة وتصميمها وتطبيقها، تقديم فرص للطلاب كي يبرهنوا على خبراتهم.

· تقديم فرص للطلاب للمشاركة في الأنشطة الإثرائية للمناهج التي يكون محورها الحياة المدنية، مما يشجع الطلاب على تطبيق ما تعلموه في الصف الدراسي.

· إتاحة الفرص للطلاب للمشاركة الفاعلة في إدارة المدرسة والتي يطلق عليها عند الغربيين "حكومة المدرسة"؛ فتلك المشاركة تعطي الطلاب صوتاً له معنى في إدارة شؤونهم في الصف والمدرسة مما يؤدي إلى ممارسة حقيقية لكثير من الخبرات الديمقراطية، وهنا تكون المدرسة قد أبعدت نفسها عما يتهمها به الكثيرون من تغليبها تقديم المعرفة على حساب التدريب وتوظيف تلك المعرفة داخل المدرسة وخارجها.

· إيجاد فرص لمحاكات العمليات الديمقراطية كتشكيل معارضة لمشروع ما، أو التفاوض، أو بناء تحالف من أجل مناصرة قضية ما أو الاعتراض ضد مشروع ما داخل المدرسة وخارجها، وفق مبررات منطقية مقدمة من قبل المعارضين.

وحين نبادر إلى تفعيل تلك الأفكار لابد أن نضع في الاعتبار موضوع العناية بإعداد المعلم، بإيجاد برنامج فعّال لإعداد المعلم من حيث تزويده بالمعرفة عن المواطنة وقيمها، ومهاراتها، بل إن نجاح برنامج المواطنة في المدرسة يرتبط بالإعداد الجيد للمعلم.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرؤى المدرجة سابقا لا تحتمل الاختيارية بل على المدرسة أن تدرك أن رسالتها الرئيسية هي إعداد مواطنين وليس موظفين - وإن كان ذلك أحد الأهداف الفرعية لعملية الإعداد- ولذلك فإن تحقيق تلك الرسالة لابد أن يتم بأسلوب واقعي، حتى لا تتسع الفجوة بين النظرية والتطبيق، وبين المثالية والواقعية، وبناء مواطن إيجابي واعٍ.

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك