الخمول السياسي

عبيدلي العبيدلي

فيما عدا بعض الساحات العربية الملتهبة عسكرياً، وهي الأخرى لا تخلو حركتها السياسية من بعض الرتابة التي تقترب من الترهل، يمكن لمن يحاول توصيف المشهد السياسي العربي أن يصفه بـ"الخمول"، إذ يطفو على خشبة مسرح ذلك المشهد ما يشبه الكسل الذي يصاب به الإنسان إما جراء إعياء بعد أن بذل الجسم مجهودا كبيرا أو لضعف في بعض العضلات التي تمد الجسم بالطاقة التي تولد له الحيوية التي يحتاجها لطرد ذلك الكسل، أو لإرهاق صاحب الجسم نفسه في أنشطة صغيرة تستهلك جزءًا كبيرا من الطاقة المخزونة في جسمه.

ومصطلح "الخمول السياسي" ليس تعبيرًا جديدًا على القاموس السياسي العربي، فقد سبق أن استخدمه مهندس وقانوني مصري مقيم ببرلين، أيمن زغلول لتوصيف الحالة المصرية إبان حكم الدولة العثمانية حين أرجع أسباب "الخمول السياسي والعلمي لمنطقة الشرق الأوسط خلال الحكم التركي العثماني" إلى سببين رئيسين هما: "أولا كون الدولة العثمانية كيانا أوروبيا يرى أن مجال عمله الأصلي هو أرض أوروبا حيث كانت تلك الدولة تناطح القوى الأوروبية المختلفة، وبالذات روسيا والنمسا، وبالتالي لم يكن الشرق الأوسط يمثل أكثر من مصدر من مصادر الدخل ولم يكن يوما يمثل مصبا لنفقات الاستثمار أو التطوير أو التحسين، كالطبيب الذى يشكل العمل الطبي مصدر دخله الأساسي ولكنه قد ورث عقارًا قديمًا يعتبره مصدرًا إضافيًا للدخل ولكنه لا يهتم به ولا بتجديده أو تحسين حاله. والسبب الآخر كان واقعاً في ضم صفتي الخليفة والحاكم الدنيوي في نفس الشخص، أي شخص السلطان العثماني. وقد جاء هذا الضم عقب قرون طويلة من الفصل بينهما حيث تعدد السلاطين مع وجود خليفة واحد له سلطة رمزية روحية لا يتعداها إلى السلطة السياسية التي يمارسها السلاطين كل في منطقته. وهذا الضم المتأخر الذي جاء في عام 1517 معاصرا لبدايات الفصل بين الكنيسة والدولة في أوروبا بإصلاحات مارتن لوثر نشأ عنه ردة إلى الخلف لكل إقليم الدولة العثمانية وخصوصا إقليمها العربي في الشرق الأوسط".

أما فتيحة الطالبي، فقد اعتبرت سريان أعراض "الخمول السياسي" التي سادت المنطقة العربية من الأسباب الرئيسة التي حركت مياه هذه المنطقة الراكدة، وقادت إلى الأحداث التي اندلعت شراراتها قبل أربع سنوات، وما تزال بعض المناطق العربية تعيش تداعياتها، فهي ترى أنه "قبل الربيع العربي، كانت الدول العربية يسودها الخمول السياسي ويخنقها غياب الحراك السياسي الذي يساهم في التغيير الديمقراطي وينشده، فالشرق الأوسط قبل الثورات مثلاً، كان ينقسم إلى دول رئاسية طويلة المدى، سلطوية ديكتاتورية كتونس ومصر وسوريا وليبيا، وبين دول ملكية راسخة. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة وشكل المؤسسات الحاكمة في الشرق الأوسط، إلا أنها تتشابه في التسلط. كنا قد اعتدنا على هذه الصورة النمطية في علاقة الشباب العربي والشعوب العربية بحكامها، أو بالأحرى فرضت علينا، ودفعتنا إلى اليأس من تغييرها".

أما أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، حسن نافعة فيرى أن "الخمول السياسي بمعنى تراجع دور القوى السياسية المدعومة شعبياً والشخصيات الفاعلة هو ما يجعل من بيده الأمر يتصرف كما يشاء".

ولم ينجو العراق من حالة الخمول العربية هذه، فنجد حيدر الحاج، في مقالته المعنونة "حال من الترهل والخمول تغلف مفاوضات تشكيل الحكومة رغم التحركات المكوكية المبذولة في هذا الإطار"، يصر على أنه في العام 2010، ساد " الساحة السياسية العراقية حال من الترهل والخمول أصابت على وجه التحديد وفي شكل مباشر مفاوضات الكتل النيابية، الرامية الى تشكيل حكومة ائتلافية يدخل فيها جميع الفرقاء بقوة في التشكيلة الوزارية المقبلة، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة رغم الضغوط الخارجية التي مورست في الخفاء والعلن على معظم اولئك الفرقاء".

ومن الخطأ تصور أن مصطلح "الخمول السياسي" محصور في الحديث عن الواقع العربي، فها هي نينا خرشوفا تستعير في مطلع العام 2015 رؤية مبعوث مملكة سردينيا الدبلوماسي إلى الإمبراطورية الروسية جوزيف دي ميستر، قبل نحو 200 سنة في توصيف " الخمول السياسي العميق في روسيا اليوم"، التي لم تعد روسيا، كما تراها خرشوفا "نظاماً ملكياً مطلقاً كما كانت في زمن ميست، وهي ليست دكتاتورية شيوعية حيث يستخدم أمثال جوزيف ستالين التهديد بمعسكرات العمل لتثبيط التعبير السياسي".

خطورة إصابة القوى السياسية الفاعلة بأعراض مرض "الخمول السياسي"، أنها لا تفقد حيويتها في الحركة فحسب، لكنها أيضا، وفي أحيان كثيرة، وبفضل ذلك النوع من الأمراض، توجه ما تبقى لها من قدرات على الحركة نحو القضايا الثانوية، لأن هذه الأخيرة لا تحتاج إلى ذلك الجهد الجبار الذي تتطلبه القضايا المصيرية الكبرى، ولذلك تجد نفسها منهكة في اللهث وراء تلك القضايا الصغيرة التي تضاعف من حالة الخمول الذي تعاني منه، وتحرفها عن السير في الطريق الصحيح الذي يفترض منها أن تضع أقدامها على بدايته.

من هنا، وأول خطوات الخروج من حالة الخمول السياسي هذه هو شعور القوى السياسية ذاتها بهذه الحالة، واعترافها الحقيقي بها، على أن يليها رغبتها في الخروج منها، بسد أعينها عن بريق القضايا الصغيرة، التي تغري من يعاني من "الخمول"، والالتفات بجد، ومن منطلقات استراتيجية، نحو القضايا الكبرى التي تهم الأمة، والتي قد تبدو باهتة بفضل طول الطريق التي تفصلها عمن يعاني من ذلك الخمول السياسي.

أعراض الخمول السياسي تنشب أنيابها في جسد القوى السياسية العربية، ولن يشفيها منها تعاميها عن ذلك الخمول أو إصرارها على رفض إصابته به.

تعليق عبر الفيس بوك