"الوثائق والمحفوظات" تكرم الدفعة الأولى من رواة التاريخ الشفهي العماني

باعتبارهم مساهمين في حفظ ذاكرة الوطن وتوثيق تاريخه التليد-

◄ الضوياني: "الهيئة" تولي اهتماما بالغا بتاريخ السلطنة باعتبارها مركز إشعاع مهما للمعرفة البحثية-

◄ الحراصي: "الرواية الشفهية" إسهام ثقافي في حفظ تاريخ السلطنة والهوية العمانية-

◄ البوسعيدي: فقدان راوٍ فقدان لمكتبة ثرية.. والمفاضلة بين النخبة بكم المعلومات ومقدار العطاء الإنساني-

◄ الصارمي: الكثير من المأثرة التاريخية اندثرت بسبب حجج "غياب الأسانيد"-

◄ المعمري: مسؤولو "الهيئة" مطالبون بالإسراع في وتيرة العمل لحفظ الثروة المعرفية للوطن-

مسقط - الرُّؤية-

نظَّمت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، أمس، بقاعة السندباد بفندق كراون بلازا بالقرم، حفلَ تكريم للدفعة الأولى من رواة التاريخ الشفهي، الذين بادروا بتسجيل روايتهم الشفهية عبر المقابلات الشخصية التي أجراها فريق عمل المشروع بالهيئة لعدد من أصحاب الفكر والتجربة؛ وذلك تحت رعاية معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي رئيس الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون، وبحضور سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وعدد من المعنيين والمكرمين.

واستهل حفل التكريم بدعاء ابتهل به الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي، ثمَّ عرضت قصيدة شعرية تم تسجيلها في البرنامج مع أحد أكبر الرواة عمرا، وهو الرواي المغفور له خلفان بن محمد الدغاري الذي سجَّل قصيدة تحكي رحلته من عمان إلى زنجبار.

وبعدها، ألقى سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.. قال فيها: إنه لمن دواعي السرور وعظيم التقدير لهذه الوجوه التي تجاوبت مع مبادرة الهيئة في مشروعها الذي يسجل ويدون جانبا مهما من تاريخ عمان السياسي والاجتماعي والثقافي، ويرصد أحداث ووقائع عاصرها الرواة فكانت حاضرة في نفوسهم، مما أكد أنَّ بعضًا من تفاصيل التاريخ العماني كانت غائبة وغير موثقة ولم تحظَ بعناية المؤرخين والباحثين بالدقة التي يعرضها الراوي المعايش لتلك القضايا والأحداث، وانطلاقا من الاهتمام الذي توليه الهيئة في توثيق الذاكرة الشفهية العمانية، والوقوف على واقع الوثيقة الشفهية والمخاطر التي تتعرض لها والعوامل التي تؤثر فيها، والأسباب التي أدت لعدم الاستفادة منها وخلصت إلى الظروف الصحية والنفسية؛ ومنها: بلوغ الرواة وممن يمتلكون المعلومة من العمر مما يجعلهم غير قادرين على التذكر والسرد، وتناول الحديث بشكل دقيق مشاهداتهم وذكرياتهم وتجاربهم، كما أنَّ حالات الوفاة هي ما يتهدد الوثائق الشفهية والتي في حال رحيل أصحاب التجارب والفكر والعلم وممن لديهم الخبرات وممن يمتهنون مختلف المهن ويمارسون شتى الفنون، فإنَّ جزءا كبيرا ستفقده الذاكرة الوطنية وبلا ريب فقدنا الكثير مما يتوجب حفظه وتدوينه وتسجيله، ومن هنا يتكون الرصيد الوثائقي المكتوب الذي تمتلكه الهيئة، فالوثيقة الشفهية تشكل جزءا لا يتجزأ من التاريخ العماني مكملا للمصادر والمراجع المكتوبة وتسجل الحضور العماني الذي يتجلى فيما خلفه من مآثر ومعارف في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والإدارية...وغيرها من مجالات الحياة المختلفة، وهؤلاء الكرام الذين نعتزُّ بحضورهم اليوم كلٌّ منهم كان له دور مشرف خلال مسيرة حياته؛ أكدت لنا ما دوَّنته الأحداث والتي ينبغي علينا النظر إليها كونها جزءا من نسيج تاريخنا العماني المجيد، والذي يجسِّد الأشخاص أحداثه ووقائعه، والتي يتوجب عند دراستها الامعان فيما يحيط بها من ظروف وأوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية محلية ودولية، وعلاقتها بواقع مجتمعنا العماني.

وتابع: إن الوثائق التي رصدتها الهيئة وامتلكتها تُعرض كجانب من تاريخ عمان في المحافل المحلية والدولية، توليها الهيئة العناية والاهتمام، ونؤكد من خلالها للعالم أجمع أن تاريخ المجتمع العماني يحظى بالرعاية والاهتمام في شقيه المادي والمكتوب وغير مادي، ويُسهم في إعانة الباحثين والدارسين في دراساتهم وبحوثهم.

فيما أشاد معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي رئيس الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون بالدور الذي قامت به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، في توثيق التاريخ الشفهي، وقال في تصريح له عقب رعاية الحفل: يسعدني أن أقدم شكري وتقديري إلى هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية وإلى فريق التاريخ الشفهي، لإسهامهم في حفظ تاريخ عمان والهوية العمانية بطرق مختلفة، وإحدى هذه الطرق الرواية الشفهية التي رأينها خلال هذا الحفل، عبر الرواة الذين تم الالتقاء بهم، معتبرا أن ثمة جهود كبيرة بذلت في هذا البرنامج.. وأشار معاليه إلى إمكانية التعاون بين الهيئتين في عرض هذه المقابلات، عبر شاشة تليفزيون وإذاعة سلطنة عمان.

جهود مكثفة

بعد ذلك، تابع الحضور فيلما قصيرا يحمل عنوان "هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية" تناول الجهود التي تبذلها في سبيل حفظ التاريخ وتوعية المواطنين بدورها وحثهم على المبادرة بتسجيل وثائقهم، إلى جانب تطرقه على أهم إنجازات الهيئة في الفترة الماضية من المؤتمرات والندوات والمعارض المنعقدة سابقا والاتفاقيات المبرمة بين الهيئة ومختلف الجهات الى جانب أهم الإصدارات.

ثمَّ قدَّم زهران بن زاهر الصارمي كلمة الرواة؛ قال فيها: إنها أمانة كبرى حمَّلنا إياها العاملون المخلصون بهيئة الوثائق، أن نقول "الكلمة"... أن نروي "الحكاية" التي نتوخى فيها الفائدة والعبرة لأجيالنا الحاضرة والتالية. إنها ذاكرة وطن، وذاكرة الأوطان لا تقتصر صياغتها وتكوينها على النخبة أو الصفوة من القادة أو الساسة أو أصحاب الجاه والمال أو العلم والسلطان، وإنما المعني بها أيضاً كلُّ من عاش على أديمها وتنسم هواءها وكانت له فيها حياة ومشاركاتٌ، حق له بموجبها، أن ينعم بحقوق المواطنة الكريمة التي تكفلها المواثيق والأعراف للإنسان، بكل وطن من الأوطان. وللحياة صور ومظاهر لا تعد ولا تحصى، في الأفراح والأتراح، وفي زمن السلم والحرب، وفي ابتكار أساليب العيش وصناعة الأمجاد، التي يعرفها العائشون في قاع المجتمعات، من يدُهم في النار، أكثر مما يعرفها القابعون في أعلى الهرم أو في أبراجهم العاجية؛ لذا قالوا: "التاريخ يُصنع في القاع" ولما سئل نابليون بونابرت عمن يصنع النصر في المعارك، قال: "الطباخون" بنظرته الثاقبة.

وأضاف: بدأ الاهتمام العالمي الرسمي بهذا الجانب في العام 1948؛ حيث كانت جامعة كولومبيا هي السباقة بإطلاقها مشروعاً لتدوين التاريخ الشفهي لمجموعة من الشخصيات الأمريكية؛ ثم تبعتها في ذلك بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، حين أنشأ بول طومسون جمعية التاريخ الشفهي البريطانية. ويوماً كنت في الصين الشعبية، فاكتشفتُ من أقوالهم إنهم يشربون الشاي بلا سكر تخليداً لذكرى زعيمهم، ماوتسي تونج، المحاصر يوماً في جبال خونان التي ينمو بها كل شيء عدا السكر، وأن لذلك الشعب في شتى مواقع العمل جلسات شهرية تسمى "جلسات التثقيف الطبقي" يربطون فيها الحاضر بالماضي عبر استعراض المخضرمين منهم لتجاربهم بالأمس، على أسماع أجيال اليوم المعاصرة، لتعرف أسرار نهضتها العظيمة، ومن كان يقف وراءها بمعاناتهم الأليمة وتضحياتهم الجسيمة.

وتابع بقوله: نحن العرب كنا من الأمم السباقة في حفظ التاريخ الشفهي، عبر تداول الأشعار والحكايات والبطولات والحكم والأمثال والأقوال المأثورة جيلاً بعد جيل، إلى حد أن قيل بأن "الشعر ديوان العرب". ومن يسعى لطمس هذه المأثرة للتاريخ الشفهي، تحت حجة غياب الأسانيد، فإنه في حقيقة الأمر يطمس معظم التاريخ العالمي بوجه عام، و الإسلامي بوجه خاص، فالقرآن الكريم ذاته والسيرة النبوية والأحاديث الشريفة، التي هي الدعامات الأساسية للدعوة الإسلامية، دُوِّنت تدويناً من الرواة بعد انقطاع الوحي وموت رسولنا العظيم محمد -صلى الله عليه وسلم- بعشرات السنين؛ ومن قبل ذلك جمع هوميروس الإغريقي أخبار ملحمتيه الشهيرتين، الإلياذة والأودية، من الرواة، وكذلك فعل مواطنه أبو التاريخ "هيرودوت" في كتابته لأحداث ذاك الزمان.

التاريخ الشفهي

وبعدها، تم عرض فيلمين؛ الأول تحدث عن التاريخ الشفهي والكادر الفني الذي تزخر به الهيئة في هذا المجال؛ حيث تحدث عن العمل الدؤوب الذي يقوم به الفريق وطريقة العمل في هذا الجانب والإنجازات التي حققها إضافة الى بعض المقابلات التي أجراها لبعض المسؤولين في الهيئة ودور الهيئة في اقتناء وتوفير أفضل الأجهزة المختصة في سبيل إنجاح العمل واخراجه بالطريقة المثالية، وعرض الفيلم الآخر مجموعة من المقاطع للمكرمين أثناء تسجيلهم لبعض الحلقات في الفترة الماضية في لحظة زمنية تعود بالرواة الى الماضي الجميل.

وقال الدكتور جمعة بن خليفة بن منصور البوسعيدي مدير عام المديرية العامة للبحث وتداول الوثائق: يُعد تكريم الرواة ومعه ذكريات جميلة وذكريات حزينة، الذكريات الجميلة هي ذكريات الوفاء والتواصل والمودة، التي تربطنا بالرواة الأكارم، أما الذكريات الحزينة والمؤلمة هي ذكريات فقدان الأحبة من الآباء والأجداد من الرواة. لكن هذا العمل الكبير الذي تقوم به هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية من جهود مخلصة، لا تحدها حدود، ولا يثنيها مزاج او رغبات شخصية.

وتابع بقوله: يقال إنَّ فقدان راوٍ هو فقدان لمكتبة ثرية، حيث يتم القياس والمفاضلة بين هؤلاء النخبة من الرجال والنساء، بكم المعلومات ومقدار العطاء الإنساني الراقي الذي يحظى به الجامع الميداني او الباحث او خبير التراث الثقافي.

فيما قال الدكتور عبدالعزيز بن هلال الخروصي مدير دائرة البحوث والدراسات بالهيئة: إنَّ من الأشياء التي قد يتم الخلط بينها، هي التفريق بين التراث الشفهي والوثائق الشفهية، فمن وجهة نظرنا أن التراث الشفهي هو الذي يتحدث عنه الراوي عما سمعه أو قرا عنه. أما الوثيقة الشفهية، فهي تتطلب أن يكون الراوي يتحدث عن مشاهداته والأعمال التي شارك فيها أو كان قريباً منها ويأتي تكريم الرواة من قبل الهيئة، تقديراً لتعاونهم وتسهيل مهمة فريق العمل من خلال المقابلات التي أجريت معهم.

ثراء ثقافي

ويرى العميد المتقاعد حمد بن مانع بن حمد المعمري -أحد المكرمين في الحفل- أن للوثائق والتاريخ الشفهي بشكل خاص أهمية كبيرة كون هذا النوع ينتهي بانتهاء أجل الشخص عند وفاته؛ لذلك على القائمين في هذا الجانب الإسراع في وتيرة العمل لحفظ هذه الثروة الوطنية من المعرفة ونقلها للأجيال القادمة.

وقالت شمسة بنت إبراهيم بن سعيد العبرية -إحدى المكرمات- إن توثيق التاريخ القديم له أهمية كبيرة في المجال الثقافي والحضاري؛ حيث تمَّ عمل لقاء شفهي حول علم تاريخ الحمراء وعن التعليم سابقا في البلد وعن مدارس تحفيظ القران، وكذلك عن المناسبات المختلفة واختلافها عن الوقت الحاضر؛ فمن وجهة نظري أرى أن التوثيق الشفهي يحفظ التاريخ القديم الذي يجهله الأبناء حاليا؛ فمن المؤكد سيتم الاستفادة منه في المستقبل من خلال كتابة التقارير والبحوث، ويُعتبر مرجعا ثقافيا للتاريخ العماني، ونثمِّن الدور الكبير الذي تقوم به هيئة الوثائق في سبيل الحفظ على هذا الإرث الكبير.

فيما يقول سالم بن محمد بن سعيد السعيدي -أحد المكرمين- إنَّ مشروع التاريخ الشفهي والذي تتبناه الهيئة لهو جدير بأن يحفظ تاريخ السلطنة في مختلف المجالات باعتبارها الجهة التي المخولة لهذا الموضوع، كما ناشد السعيدي مختلف الرواة الذين عاصروا حقبا زمنية مختلفة للإسراع والمبادرة في تسجيل هذا الإرث الكبير ليمثل الأجيال المختلفة في قادم السنوات ويحكى الدور العماني في مختلف الجوانب، إلى جانب دورهم في نشر المعرفة في مختلف الدول الذي وصلوا اليها، وكما قدم جزيل شكره وامتنانه لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بتكريم الرواة فإن دلَّ هذا فإنما يدل على الاهتمام الكبير بالراوي والرواية.

ويذكر أن مشروع التاريخ الشفهي "المروي" -الذي تعمل عليه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية- انطلق مع بداية العام 2012؛ وذلك سعيا منها لتوثيق وحفظ التاريخ الشفهي الذي يمثل جزءا من الذاكرة الوطنية إلى جانب الوثيقة المكتوبة، حيث تم تشكل فريق عمل متخصص ومدرب في مجال التاريخ الشفهي ومجهز بكل الأدوات الفنية والتقنية التي يحتاجها العمل، وقد باشر فريق العمل لإنجاز المهمة الجديرة بالاهتمام الموكلة إليه لحفظ جانبا من الإرث والمخزون العلمي والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والأدبي الذي تختزنه الذاكرة البشرية وهي عرضة للفقدان بالعديد من المسببات؛ أهمها الوفاه أو المرض أو التقدم في السن وما يصاحبه من ضعف الذاكرة، والتي يحتفظ بها العديد من أبناء هذا الوطن ممن كان لهم دور مهم في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية...وغيرها، أو من الذين عاصروا التطور الذي تعيشه البلاد تحت ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظة الله.

ويأتي اهتمام الهيئة بهذا المشروع ايمانا منها بأهمية توثيق تاريخ عمان التليد من خلال حفظ الرواية الشفهية، والذي يمثل مشروع التاريخ الشفهي (المروي) إضافة جديدة ومركز إشعاع مهما للمعرفة البحثية، ويعد من الركائز الأساسية في توجه الهيئة لتكوين بيئة داعمة للبحث العلمي وقادرة على الإسهام الفاعل في حفظ ذاكرة الوطن، ولضمان بقائها كرصيد تاريخي حي للبلاد.

تعليق عبر الفيس بوك