الإنجاز في الرياضيات: ماذا يمكن أن نتعلم من تكرار التراجع؟

د. سيف المعمري

مُنذ أسبوعين، حصل ابني الصغير قابوس على جائزة لتفوقه في اختبار الرياضيات في الصف الثاني الأساسي، هذه الجائزة لها قيمتها إذا ما عرفنا أنَّ المنهج الذي يدرسه هذا الطفل في مدرسته الخاصة يدرسه طلاب المدارس الحكومية في الصف الخامس؛ فهذه المدرسة تتحدَّى طلابها ليس في مستوى المنهج الذي يدرس لهم، ولكن أيضا في كيفية الاختبار الذي يقدم لهم والذي يحكمه معياري السرعة والزمن؛ وبالتالي عندما أذاكر لابني أحرص على توظيف هاذين المعيارين، وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا سوف يؤدي إلى تكوين اتجاهات سلبية نحو الرياضيات، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فهذا الطفل مستمتع بالرياضيات وهي المادة المفضلة؛ لذا أصبح يطلق عليه "آينشتاين الرياضيات"، فهل نستطيع أن ننافس بهذا الطفل وآخرين من أطفال عُمان في المسابقة الدولية للرياضيات في السنوات المقبلة؛ لنحرز مراكز متقدمة تجعل اسمنا في مقدمة القائمة لا في ذيلها؟

هذا السؤال الجوهري الذي طرحه كثيرون خلال الأسابيع الماضية لا يقتصر في الحقيقة على مادة الرياضيات -وإن رُبط السؤال بها- إلا أنه يرتبط بالنظام التربوي بشكل عام الذي مرت عليه أربع سنوات، وهي الفترة الفاصلة بين جولة وأخرى من جولات المسابقة، وها هو يدخل هذا العام مرة أخرى إلى التيمز، تحت شعار وطني جميل "لنجعل عمان تفخر بنا"، وهو شعار يُحمِّل الجميع المسؤولية؛ لأنه لا يمكن أن تفخر عمان عندما يكون اسمها في المراتب الأخيرة من التصنيف؛ فهذا شيء مُؤلم جدا لبلد العلماء والنوابغ والمبدعين في مختلف المجالات الفكرية.

... إنَّ السمينارات التي حضرتها في قسم المناهج والتدريس بكلية التربية جامعة السلطان قابوس؛ لمناقشة نتائج دراسات ماجستير في مناهج الرياضيات وطرق تدريسها، كشفت الحقيقة التي لابد أن نعترف بها بعد كل هذه السنوات، الحقيقة التي لا نريد أن نحملها لأحد بقدر ما نريد أن نضعها من أجل أن نفهم إلى أين نحن ماضون في تعليم الرياضيات هذه المادة السحرية التي جعلتها رؤية عمان 2020 من ضمن الأولويات التي لابد أن يرتقى بتدريسها والتحصيل فيها من أولويات إصلاح النظام التربوي، لقد كشفت هذه الدراسات -التي طبقها الباحثون على الصف الثامن والتاسع- عن ضعف كبير في التحصيل، وفي المتغيرات المرتبطة بالتفكير التأملي، ومهارات التفكير الإحصائي، والتفكير الهندسي، وظهر أنه حتى في ظل تطبيق أساليب تدريسية جديدة قائمة على التفاعل، إلا أن التحسن يكون محدودا مما يشير إلى وجود معوقات أخرى تقلل من احتمالية تحسن تحصيل الطلاب ونمو تفكيره، وإذا ظل الوضع كما كشفت عنه هذه الدراسات، فإننا لن ننجح في التقدم نحو "قمة الرياضيات" وسنظل نراوح مكاننا في القائمة في السنوات القادمة وهو مكان لا يليق بنا ولا بإنفاقنا على التعليم، مما يعني أن ذلك سيجعل عمان غير قادرة على الفخر بأحد في مجال الرياضيات.

لقد أجريت دراسة تيمز (TIMSS) التي تعتبر أكبر دراسة عالمية لقياس تحصيل طلاب الصفين الرابع والثامن في العلوم والرياضيات لأول مرة في العام 1995م في أكثر من 45 دولة، أي أنها بدأت في السنة التي أعلن فيها عن رؤية عمان 2020م، وها نحن نقترب من ذلك التاريخ ولم نحقق ما جاء في الرؤية من وضع نظام تعليمي يتفوق طلابه في الرياضيات والعلوم، واشتركت السلطنة في نسختين متتاليتين من التيمز (2007) و (2011)، حيث جاء ترتيبنا في 2011م في المركز 41 من بين 42 دولة مشاركة، وفي المركز الحادي عشر من بين 11 دولة عربية مشاركة والمركز الخامس بين دول الخليج، ما الذي جرى حتى أصبح طلابنا الأكثر ضعفا في التحصيل الرياضي في العالم؟ هذا هو السؤال القليل في كلماته العميق في متطلبات الإجابة عنه، والذي لابد أن نجيب عنه ونحن ندخل المسابقة للمرة الثالثة.. هل يعود هذا الضعف إلى عدم توافر بيئات تربوية آمنة أو إلى وجود الطلاب في بيئات غير منظمة كما كشفت إحدى الدراسات؟ هل يعود إلى عدم توافر القاعدة القوية للطلاب في المعارف والمهارات والقدرة على تطبيقها في المشكلات الحقيقة في العالم كما أوصى أحد أهم المؤتمرات المهتمة بالتيمز؟ إنَّ الأمر لا يتوقف عند هاذين السؤالين، ولكن يذهب المحللون أبعد منها إلى مزيد من التحليلات؛ حيث وجدوا أنَّ المدارس في الدول ذات التحصيل المرتفع أفضل تجهيزا من المدارس في الدول ذات التحصيل المنخفض، وهنا يظهر عامل مراجعة التجهيزات المتوافرة في مدارسنا إن أردنا أن نزيد من قدرتنا على المنافسة الكبيرة في العالم، ونحتاج لندرس: لماذا تفوَّقت الدول التي حصل طلابها على المراكز المتقدمة. لقد كشفت دراسة أن خصائص الطلاب لها تأثير كبير في النتيجة، وظهر أن ملكية الطلاب السنغافوريين للحاسوب واستخدامه أعلى بكثير من نظرائهم الماليزيين حيث تصل النسبة إلى 94%، وهؤلاء يستخدمون الحاسوب في حل مسائل رياضية...وغيرها في المدرسة والبيت؛ مما يزيد من قدرتهم على الفهم والمنافسة؛ وبالتالي فإنَّ عامل الإمكانات والتجهيزات يضاف إلى عوامل أخرى مُرتبطة بالمنهج ومدى تضمينه للأبعاد المختلفة للمعرفة الرياضية، وبالمعلم وإعداده وتدريبه.

إنَّ دخولنا المسابقة للمرة الثالثة ربما لن يكشف لنا عن نجاح كبير، وكنت أفضل عدم الاشتراك في المسابقة لو كان الأمر اختياريا، لأننا نذهب إليها دون فهم حقيقي للمؤثرات التي تحدُّ من قدرتنا؛ وبالتالي أرى أنَّ الأمر يستحق أن يعطى أهمية أكبر من فقط اعتباره مسابقة عالمية، فهي تكشف عن قوة النظام التعليمي، ولو ظهر أن النظام التربوي غير قادر على قيادة الطلاب للحصول على مراكز متقدمة في المسابقة، فكيف سوف نتعامل مع هذا الواقع؟

... إنَّ تعزيز تعلم الرياضيات يتطلب اهتماما كبيرا وعملا نوعيا، يبدأ من خلق بيئة تحبب الطفل للرياضيات، وتجعل الطفل يشعر بوظيفية المادة في حياته العامة، كما أنني أجدد مقترح تأسيس مركز "لتعليم الرياضيات" في جامعة السلطان قابوس، وهو مركز اقترحه الدكتور رضا أبو علون أحد الذين أعتبرهم خبراء في تعليم الرياضيات، وقد تقدَّم به منذ سنين، ولكن حتى اللحظة لم يحصل على رد بشأنه، على الرغم من أنه سوف يساعد في فتح آفاق رحبة لتعليم الرياضيات، علاوة على ذلك أجد أهمية تأسيس "أندية الرياضيات" للطلاب، وتخصيص جائزة عمانية بعنوان "آينشتاين عمان في الرياضيات" تحفِّز الدافعية لدى الطلاب لتعلم الرياضيات، وتكشف عن مواهب عمانية في المجال. وهناك الكثير مما يمكن عمله، ولكن نظل نحتاج الإرادة، والإدارة الجيدة، إذ بدونهما لا يمكن تحقيق تقدم، ونحتاج لنعمل بإخلاص لنجعل عمان تفخر بنا.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك