كيف نتفاعل مع الآخر ولا ننصهر فيه!

عبدالله العليان

لابن خلدون رُؤى عميقة في فلسفة التاريخ، ذكرها في مؤلفه الشهير "المقدمة"، وفي كتابات أخرى عن الحياة التي عاشها في عصره، وما توقعه لحال المسلمين في ظل صراعات وتحولات وتنبؤات لما بعد عصره؛ حيث يرى أن تقبل الأفكار أو تأثيرها في الآخرين، يأتي في حالة ضعف الأمم وتراجعها الحضاري، أو هزيمتها العسكرية أمام الآخر القوي. ومقولته الشهيرة تعزِّز هذه الرؤية الخلدونية بأن "المغلوب مولع باقتداء الغالب"، ولكن ظهر شيء نادر الوقوع في التاريخ الإنساني، وهو أن الغالب -أحياناـ يسلِّم بفكر المغلوب وينصهر فيه؛ فعندما هجم التتار على البلاد الإسلامية، واحتلوا بغداد ومصر والشام وجزءا من العالم الإسلامي آنذاك، فإنهم أسلموا، وذابوا في المحيط الإسلامي، وهذه تُعتبر هجرة لأفكار جاذبة للآخر الغالب، وانتصار لفكر المغلوب، وهذا من الحالات النادرة في التاريخ، ربما هذا سرُّ الدين الإسلامي، الذي هو وحيٌ إلهيٌّ، يختلف عن الأفكار والفلسفات الإنسانية. لكن حصل في هذا العصر على وجه الخصوص، الكثير من التأثير الغربي في حياة المسلمين، عندما أخذ الغرب مكان الصدارة، وتفرَّد حضاريا وعلميا في عصرنا الراهن، بدأ يطرح مقولة ثقافة المركز وثقافة الأطراف، وأن ثقافة المركز هي الثقافة العلم والحضارة والتقنية، ومن عمل على اكتساح الثقافات الأخرى المغايرة؛ فعمل كما قال د.محمد عابد الجابري على مبدأ "يجب إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان: إخضاع الأبدان يتم بالمدفع. أما إخضاع النفوس فسلاحه التعليم والثقافة، كان ذلك بالأمس، أما اليوم في القرن الحادي والعشرين؛ فالاتصال من دون "المدفع" ممكن و"إخضاع النفوس عن بُعد"، أصبح أمرا ميسورا جدًّا بفضل التقدم الهائل في وسائل الاتصال السمعية والبصرية؛ وإذا انقلب الوضع انقلاباً: لم يعد إخضاع الأبدان شرطا لإخضاع النفوس، بل على العكس لقد غدا إخضاع النفوس طريقا لإخضاع الأبدان؛ لقد كان القدماء من الفلاسفة يعرفون البدن بأنه "آلة" تستخدمها، وأن إخضاع النفس يستتبع حتما إخضاع آلتها: تلك حقيقة "الاختراق الثقافي" في عصرنا الراهن؛ وذلك هو هدفه، هذا الاختراق المحمل بأيديولوجيا العولمة التي نناقش أبعادها ومخاطرها على الهوية الثقافية، أصبحتْ حقيقة واقعة وليست أوهاما كما يدَّعى بعض المثقفين العرب؛ ذلك أن العولمة من خلال مفهومها الذي وضعه القائمون على تطبيقاتها، وهذه النزعة التي يسخرها الغرب لتحطيم الهويات الأخرى، ليست خالية من الأيديولوجيا المضادة للثقافات الإنسانية؛ فهي تبرر هذا الاكتساح العملاق بمفاهيم حديثة وجذابة مثل التقدم الاقتصادي والرخاء المادي والديمقراطية والليبرالية...وغيره، لكن البعض يشكك في هذه المقولات، ويعتبرها مجرد طرح فضفاض ومغاير للواقع الذي تستهدف هذه العولمة وما سبقها من مفاهيم في هذا السياق.

وتُعتبر وسائل الاتصال العالمية وسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية الجديدة التي صارت تنافس الوسائل الأخرى كالأسرة وأولياء الأمور والمدرسة والبيت...وغيرهم من وكلاء التنشئة الاجتماعية، وقد تكون أحياناً أكثر أثراً منهم على الطفل، إذا ما ازداد تعرض الطفل لها، ومع أنَّ الدراسات حول هذه الظاهرة لا تزال قليلة جداً في مجتمعنا العربي، إلا أنَّ أثرها واضح في بناء الشخصية وعالم الطفل ومفرداته اللغوية، وتحصيله الدراسي وفعله الاتصالي وسلوكه الاجتماعي، وآرائه وقناعاته ومواقفه وسلوكه الاستهلاكي؛ فالساعات الطويلة التي يقضيها الطفل في مشاهدة تقنيات الاتصال العالمية تجعل منها مصدراً مهما لإمداده بالمعلومات ولتكوين اتجاهاته ومعتقداته، وقد تحوله إلى مجرَّد مُستهلك سلبي، الشيء الذي يقف حائلاً دون تطوير قدراته وطاقاته الإبداعية.

... لقد كانتْ الدولة في الماضي -إلى حد ما- المصدر الوحيد للمعلومات. أما الآن، فإنَّ تطوُّر تقنيات الاتصال ستجعل الثقافة العالمية تنساب عبر الحدود؛ الأمر الذي يجعل من المتعذر السيطرة على تدفق المعلومات الهائل ومراقبتها. أما التحديات التي تترتب على العولمة الثقافية بالنسبة للمجتمع فخطيرة جداً؛ ذلك أنَّ المجتمع يعرف نفسه من خلال الثقافة والتاريخ، وتكوين مرجعية ثقافية، تشكل أساساً لشعور الجماعة والنسق القيمي. وهذا سيشكل تحدياً كبيراً من خلال الاختراق الثقافي وتعدد العوالم الثقافية، وانسياب المعلومات في اتجاه واحد هي التي تضع الرأي العام وتؤثر في تشكل وعيه، لكن البعض يقلل من خطر العولمة ويعتبر هذا التدفق المعلوماتي ظاهرة إيجابية في معظم أنساقها الثقافية، ويمثل جانباً مهما من انفتاح الثقافات العالمية على بعضها البعض. لكن هناك مخاطر الاختراق الثقافي الذي يمثل خطرا حقيقيا على الهوية الذاتية، والكثير من الدول تحذر من مخاطره الكبيرة على الثقافة الوطنية، وأصدق مثال على ذلك أن فرنسا لا تزال إلى الآن تنتقد العولمة الثقافية والتي تسميها "الإمبريالية الثقافية الأمريكية" وتبذل جهوداً كبيرة للمحافظة على "الفرانكفونية" في فرنسا، وفي بعض الدول الإفريقية، ومما قاله وزير ثقافتها في أحد المؤتمرات الدولية مهاجماً الولايات المتحدة: أن تلك الدول علمتنا قدراً كبيراً من الحرية، ودعت الشعوب إلى الثورة على الطغيان، أصبحت لا تملك اليوم منهجاً أخلاقياً سوى الربح، وتحاول أن تفرض ثقافة شاملة على العالم أجمع.. ومضى يقول: إنَّ هذا هو شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، بل يُصادر الضمائر ومناهج التفكير وطرق العيش. إذا كان موقف فرنسا بلد الحرية والنور والإشعاع الثقافي في الغرب، ترفض ثقافة الولايات المتحدة وتعتبرها إمبريالية ثقافية. فماذا يجب أن يكون موقفنا نحن من هذا الاكتساح الثقافي والاقتصادي...وغيرها من الأبعاد الأخرى في هذا الإطار؟

وإذا كانت العولمة الثقافية تعني هيمنة ثقافية واحدة بأفكارها وقيمها وسلوكياتها، وإزاحة الثقافات والهويات الأخرى الذاتية، فما جدوى الحديث عن تعددية الأفكار والثقافات الإنسانية؟ وماذا بقي من شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وهما من أسس الحرية الثقافية والفكرية في ظل هذا التحول المعادي للتعددية الثقافية.

وإذا كان البعض يُردِّد مقولات تقلل من محاذير ومخاطر العولمة الثقافية، والحديث عن التبادل والتفاعل الثقافي بين الثقافات، من خلال تقنيات الاتصال...وغيرها من الوسائل الحديثة، فإننا نعتقد أن هذه الآراء تفقد مصداقيتها كما قلنا بالتدريج؛ ذلك أنَّ التبادل الثقافي بين ثقافات غير المتكافئة محسومة سلفاً، وعدم التكافؤ يلغي عملية التفاعل والتبادل المفترض بين ثقافات الشعوب، وأن عدم الاعتراف بالتعددية الثقافية في إطار العولمة ربما يمهد الطريق إلى حضارات وثقافات مغلقة، والانغلاق ربما يجر إلى انقسام الحضارات، وهذا الانقسام سيعزز للأسف نظرية هنتنجتون في "صدام الحضارات" التي تدَّعي أن فكرة التصادم والانقسام في المستقبل لن يكون أساسه الأيديولوجيا، بل الثقافات والهويات عند خطوط التماس هذه الحضارات!! لكننا نعتقد أن هذا ليس صحيحا؛ لأنه ضد واقع التعايش والتفاهم والتواصل، الذي هو أصل الحضارات الإنسانية، منذ ظهورها بداية التاريخ.

فالمناداة بالذاتية الثقافية التي تُعدُّ عنصراً من أكثر العناصر تمييزاً لعصرنا ليست من قبيل الحنين الذي لا طائل تحته إلى ماضٍ عفا عليه الزمن حقيقة، بل إنَّها مرتبطة بالتقاليد، وبذلك السجل الذي تدون فيه الخبرات المتراكمة التي اكتسبها المجتمع عبر التاريخ. وهذه الذاتية الثقافية لا تعني على الإطلاق العزلة والانطواء، بل إنه سلوك محمود في التميز عن الآخرين وثقافاتهم كأسلوب للعيش وصياغة النموذج الخاص الذي تعرفه الشعوب والحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ. إنَّ الإسلام -عبر التاريخ المديد- تفاعل مع الثقافات الإنسانية، من حيث الأخذ والعطاء، لكنه يرفض الاكتساح، والهيمنة، لاقتلاع الهوية الوطنية تحت مسمى الثقافة العالمية، أو ثقافة العصر الجديد، وفرض ثقافة الآخر المختلف، فالتمايز بين الثقافات أمر طبيعي ضمن التعدد الثقافي، ومع أن التفاعل والتواصل، محمود بين الثقافات والهويات الإنسانية، لكن يجب الفرز والانتقاء.. ماذا نأخذ وماذا ندع، حتى لا ننسحق وننهزم فكريا، ونبقى مجرد تابعين لثقافات الآخرين وفكرهم.

تعليق عبر الفيس بوك