الخطاب الغربي لـ11 سبتمبر.. إرهاصات تراكمات

ابتهاج يونس

كان يا مكان منذ القرن التاسع عشر .. شعوب بسيطة لها خصوصيتها الثقافية التي تُسّير حياتها اليومية، وتحكم تفاعلاتها مع الآخر بكل ترحيب وحسن نية. ومن تلك الشعوب شعب الهند، حيث كان يسودها الحكم المغولي الإسلامي، والذي احتوى أغلب أطياف الهند من كل الأديان بأقل قدر من القمع. كان الزوار البريطانيون يترددون هناك، يعيشون معهم ويلبسون ملابسهم ويشاركونهم طقوسهم المختلفة. ولأن المجتمع الهندي يجمعه العنصر "الصوفي" وإن اختلفت دياناته، فكانوا متقبلين للجميع، فسمحوا للبريطانيين بالتعايش معهم اقتصادياً ودينياً وببناء كنائسهم والتعبد فيها -إلى أن ظهرت على حقيقتها بعد أن امتد نفوذها وتحولت إلى التخطيط الإمبريالي بدخول عساكرها، عندها ثار الهنود وظهر وجههم الآخر عندما تعلّق الأمر بأرضهم وكيانهم، فنشطت الحركات الوطنية في تحرير الهند باسم الدين حتى لا تسمح باستغلال تسامح مجتمعها، ومنها الحركة الوهابية التي كانت رائجة في تلك المرحلة. تحوّل الصراع في الهند بين قوات جوردن البريطاني والدراويش المنتقمين لتحطيم شركة الهند الشرقية وطرد العساكر الدخيلة. وفي مكان آخر "السودان"، دخلت بريطانيا للأهداف ذاتها وبالتكتيك نفسه وحدثت مجازر أودت بحياة السودانيين، حتى ظهرت حركات التحرر الوطني بحافز الدين ومنها الحركة المهدية بقيادة محمد أحمد المهدي الذي أخذ راية التفاوض والحرب، ومنها أصبح بكاريزميته قائدًا روحيًا للسودانيين، وفرض نظامًا إسلاميًا متشددًا لا يقبل المرونة، ونجح في هزيمة القوات البريطانية مرات عديدة. وفي فلسطين حيث يتعايش المسلمون واليهود والمسيحيون بسلام، دخل لورانس العرب مفاوضًا لمساعدتها في التخلص من الهيمنة التركية، وبالطبع لكل شيء مقابل، وكان مقابله الاستعمار، ومنها قامت بريطانيا وأوروبا بتهجير يهودها وبقاياها إلى هناك على أنّها الأرض الموعودة كمكافأة منها وللتخلص من مسوخ الحرب العالمية، ومنها ثار الفلسطينيون وظهرت جماعاتهم التحريرية الدينية المسلحة ومنها كتائب القسام؛ لمقاومة الاستعمار. أصبحت فلسطين أرضًا خصبة للصراعات الدينية بين شعبها، فقد وحدت بسبب الفتن، فأصبح المسلمون ضد اليهود والمسيحيين بسبب الصهاينة. إضافة إلى ذلك، لا ننسى قصص كل من مصر ودول المغرب العربي، وسوريا ولبنان والعراق، وإيران وأفغانستان وإيران والخليج العربي، فغالبها متشابهة ومتزامنة، تمهد لأحداث 11 سبتمبر وتبشر بها، لكن المقام لا يسع لسرد تلك الجروح وتفاصيلها.

منذ القرن العشرين تسيّدت أمريكا العالم وحلّت محل بريطانيا - عن طريق غاراتها، من تهجير الأفارقة إلى حرب فيتنام وقنبلة هيروشيما والتدخل في شؤون الدول الأخرى بهدف المساعدة ونشر حقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الإرهاب وجماعات التطرف بالتفاوض، ومدت استثمارها بشركات متعددة الجنسيات وعابرة للقارات لإحداث التنمية وفرض الديون. وقد تفوقت في المجال الاقتصادي التكنولوجي، وأصبحت تصدرها للعالم كرائدة ومنها بدأ نظام عولمتها الثقافية لفرض تفوقها على كل شيء، وبدأت بمقارعة روسيا بحرب باردة، وكانت منافسة سياسية في السيطرة على دول ما وراء النهر.

كانت أفغانستان هي المحور الأساسي لأحداث 11 سبتمبر 2001، حيث نشطت فيها الحركات الإسلامية ضد الاستعمار السوفييتي، وبعدها الهيمنة الأمريكية، فظهر فيها تنظيم القاعدة في طالبان، وتم ممارسة العنف فيها باسم الدين على الخارج والداخل للأسف. فأصبحت تنبذ المدنية والحداثة الغربية وتطبق الحدود على كل من تمثلها. وبحسب مصادر أمريكا للحدث ضُرب برج التجارة العالمي، ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بطائرة. نتج عن ذلك 2973 قتيلاو24 مفقودا، وبعدها اتخذت أمريكا اتجاه الرد بالعدوان على أفغانستان، وتشريع دخول قواتها للعراق بهدف محاربة الإرهاب. ومن تلك الحادثة ضجّ العالم الغربي بالتحري عن الفكر الإسلامي وإصدار الأحكام بأنه أساس الإرهاب، وبدأت الرقابة الشديدة على الحدود والمطارات، وتم اعتقال الكثير من الناشطين السياسيين الإسلاميين المدنيين والمشتبه بهم سواء كان لهم صلة أم ليس لهم صلة، وتم تعذيبهم في سجن غوانتنامو وأبو غريب. تم التضييق على حريات المدنيين من المسلمين في أمريكا، وصدرت أوامر بمنعهم من حرياتهم الشخصية والاعتقادية بهدم المساجد والتركيز على مظهرهم وملبسهم، وتمّ منع الحجاب في بعض الجامعات كمثال لذلك، ونشط الإعلام في تشويه صورة الإسلام والتندّر عليه بأنه دين حرب ونكاح.

وإذا جئنا للمفكرين، يذكر الباحث عبد الله السيد ولد أباه أن الخطاب الغربي حول الإسلام انقسم لاتجاهين:

أولاً النموذج الاستراتيجي:

تركز على خارطة العالم بعد 11 سبتمبر، وقد توزعت في ثلاثة تحليلات:

1- اعتبار الحدث بداية مدة جديدة، وهي صرخة الدول النامية في وجه الهيمنة الغربية بالعنف الأعمى والإرهاب المنفلت من كل قيد.

2- تصور أنها خطة مخابراتية مدبرة بخلق عدو "الإرهاب الإسلامي" للتدخل في شؤون الدول الأخرى، والولوج لها عسكريا.

3- إبطال فكرة الدولة الأحادية المهيمنة، وإبطال مفهوم الحرب التقليدية التي تركز على العنف العسكري- باستخدام أساليب أخرى للحرب بمقدمات سياسية واقتصادية وثقافية تمهد لذلك. ومنها ظهرت نظرية "الحرب العادلة"، والتي تبرر الإرهاب على أنه ردة فعل، والتدخل العسكري لأمريكا عدل، وانتصار لحقوق ضحاياها.

وبرزت في هذا النموذج مقولة نهاية التاريخ لفوكوياما بالتحدي المهزوم، ومقولة صراع الحضارات لهنتنجتون بالخصم المنظور، ومقولة العصر الوسيط الجديد لآلان مينيك الذي وضح العامل العرقي والإثني في الصراعات الدولية وما يخلقه من فتنة وشقاق. لن نستعرض تلك النظريات في مقالنا ولكن سنركز على العامل الجيوسياسي للحدث الذي أثر على العالم سياسيا واقتصاديا حيث تحوّل الخطاب الغربي في اتجاهين:

1- مفهوم الحرب الاستباقية "الإجهاضية" الذي تمت صياغته في 2002 في خطاب الاتحاد، حيث تحوّلت البلدان الإسلامية إلى خطر دولي لابد من محاربته وتضمينها في الإستراتيجية الحربية الأمريكية، وذلك بتصدير نمط الحياة الأمريكية والتدخل في السياسيات الأخرى بأسماء التعددية الثقافية والديمقراطية واللبيرالية والإصلاح الديني والاجتماعي وحقوق الإنسان.

2- تصدّع العالم إلى ثلاثة أقطاب بحسب مواقفها من الملف الإسلامي، وهي تتراوح بين التوجه للتوسع الرأسمالي في إطار العولمة (أمريكا)، واتجاه ثقافي يحاول التطبيع مع المسلمين لأهدافه (روسيا)، واتجاه سياسي في محاولة إعادة الهيمنة العسكرية (أوروبا).

ثانيا: النموذج الثقافي

يتركز الخطاب على نظرية "صدام الحضارات" لهنتغتون، ونظريته لا تختلف عن نماذج الفكر السياسي الأخرى في تحليل النظام الدولي الجديد. والجدير بالذكر أنه أكّد عدة مرات أن ظاهرة الإرهاب مهما بلغ أوجه، إلا أنه ليس عملا حضاريا وإن كانت خلفياته دينية وثقافية - فهي لا تعبر عن موقف قيمي. وما حدث أن الساسة والإعلاميين والمسؤولين أخذوها حجة وجعلوا منها براديغم شائعا لتفسير تلك الأحداث. ولو لاحظنا من تبنى هذا المنظور، فسيظهر لنا أنها المجموعات الأصولية في العالم الإسلامي، والتيار اليهودي المتطرف، والإحيانية الإنجيلية في أمريكا واليمين الراديكالي في أوروبا. ما يجمع بين تلك التيارات هو التعصب والانغلاق وأن لها مشروع سياسي لم ينجح.

وفي عهد بوش نجحت تلك التنظيمات المتشددة في السيطرة على مراكز القرار في أمريكا واختراقها؛ فوجهت السياسات نحو ربط أحداث 11 سبتمبر بالثقافة الإسلامية. وسيطرت على الخطاب الإعلامي.

أمثلة:

1- " إن الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك حرب حقيقية منظمة ضد نمط الحياة الأمريكية ونظام الحرية القائم عليه" هنري كسنجر - صحيفة واشنطن بوست -13/9/2001

2- "إن الغرب كله مهدد عبر رموز الحداثة الأمريكية الأكثر تقدما" - صحيفة لاربليكا الإيطالية.

3- أفاضت الصحيفة الروسية في استعادة نظرية هنتجتون والتجريح بكلمات نابية وهي بحد قولها "الصراع المتجذر العميق في القيم الإسلامية والنموذج المسيحي الغربي".

هذا غير المؤلفات الفجة التي كانت تنشر في هذا المجال، ولا يسع المقام لاستطرادها، ولكن يمكن تصنيف الأدبيات في هذا المجال لاتجاهين:

1- الاتجاه الاستشراقي التقليدي: عرف الغرب مدة انتعاشة جديدة لهذا المجال، وقد عاد المستشرق برنارد لويس بقوة للأضواء وشرح أزمة الانفصام بين الإسلام والحضارة الحديثة، ويرجع "إرهابها" إلى عدم استكمال مشروع النهضة الإسلامية، ومشاكل في التأويل في العلاقة بين الدين والدولة.

2- الاتجاه النقدي: يصور المواقف بمفاهيم علمية تحلل تجارب الديانات السماوية وتؤهلها للحداثة، ومن أبرز كتّاب هذا الاتجاه محمد أركون وجوزيف مايلا اللذان يرجعان أزمة المسلمين والغرب إلى تأخر المسلمين في تطبيق المناهج النقدية: الأنثربولوجية، واللسانيات في دراسة النصوص، فتسود النزعات النضالية والعنف.

تعقيب:

القضية كخطاب غربي نحو الإسلام متشعبة جدا، ولها إرهاصات تاريخية وتراكمات صنعت تلك الأحداث، فلا يمكن أن نحلل الموضوع ونرجعه لقطب واحد مهيمن "الغرب" مع أنه أحد الأسباب، فالتربة في البلاد الإسلامية كانت خصبة لذلك، ولاسيما بعد تراجع الاجتهاد الإسلامي - مما أدى إلى انسحابه من الواقع شاء المسلمون أم أبوا.

فالأصولية الدينية حددت مناهج الفكر الإسلامي لتقصره على الوعظ والتلقين، والتحميس العاطفي للجهاد دون تطويع هذا المفهوم لمعطيات الحياة الواقعية، فما زالت تعني الاقتتال في عصر تحددت فيه أساليب الحماية بالقانون ونظام الدولة بدلا من القبيلة والعشيرة، فاختلط على المسلمين الماضي والحاضر والمستقبل، فلم تُطوَع مفاهيم الجهاد بمعنى المشاركة في المجتمع باتخاذ القرار والمبادرة في الأعمال الخيرية والمساهمة في المجتمع المدني وتعزيز الكفاءة في العمل. ناهيك عن العنف اللامرئي الذي تظهر علاماته في الدول الإسلامية بعدم تطبيقها حقوق الإنسان إلا إن أتى ضغط دولي لتطبيقها عنوة، فتتحالف السياسة مع الدين لتتخذ موقفا ضد "حقوق الإنسان" كونها قيما غربية، لتبرر عنفها على الجماهير، فتصبح العلمانية اختيار النخب، والسلفية اختيار الجماهير.

تلك التربة الثقافية النرجسية وغير الناضجة في دفاعاتها ضد الاستعمار الغربي وتحايلاته أدت إلى ظهور أحداث 11 سبتمبر. وبها استغلت القوى الغربية للتكريس في شعبها أن الدول الإسلامية إرهابية وتستهدف حياتهم. لم تفرق بين المقاومة والعدوان، أو العنف المحرر والعنف القاهر. فهي يجوز لها أن تكيل بمكيالين بطرد شعب المايا من أمريكا واستغلال قارة أفريقيا وتهجير سكانها وتنشيط تجارة الرقيق، ومن ثم تأتينا بشعارات الإنسانية، وحقوق الأفراد متناسية حقوق المجتمعات بالحرية وتقرير مصيرها. إن التمركز حول الذات الذي خلقه التاريخ الغربي والحملات الاستعمارية وخطاب التحضر أدى إلى تقرير المكانات الدولية وتقسيم العالم إلى متخلف ومتحضر، ودرجات بعالم أول وثاني وثالث.

والخلاصة من أصل الصراعات هو صراع "ثروات" قائمة على الطمع في الموارد أيا كانت، فماذا يريد الغرب من الهند سوى ثرواتها وطاقتها البشرية؟ وماذا يريدون من السودان والمغرب العربي سوى مناجمها الزراعية؟ وماذا يريدون من أفريقيا والمايا سوى ذهبها؟ وماذا يريدون من أفغانستان وباكستان وإيران سوى بيئتها النووية الخصبة؟ أما الصراعات الدينية والثقافية ما هي إلا أشكال ووسائل تتجسد فيها تلك الصراعات لتحقيق الأهداف. ومنها تم خداع الشعب الغربي البسيط وأدلجته بهذا الصراع؛ ليتم ترسيخه كنوع من العصبية وبالتالي ينعكس على تماسك أفراده وتضامنه مع السياسة، فتم بث ذلك عن طريق الإعلام والسينما، وما زالت هذه الحادثة تؤثر في الرأي العام الأميركي إلى اليوم في انتخابات الأحزاب السياسية، ومازال الحزب الجمهوري المحافظ الذي كان بوش الابن عضوا فيها يوصم بهذه الحادثة مما أدى إلى عدم انتخابه لمرة أخرى وفوز الحزب الديمقراطي بأوباما. وفي هذه الأيام تسود هوليوود بأفلام تبرر موقف أمريكا بعد 11 سبتمبر من العدوان على العراق وأفغانستان، خلال شهرين تم عرض أفلام Camp X-rayو Boys of Abu Gharib وAmerican Sniper، وذلك لأنها مدة الانتخابات.

تعليق عبر الفيس بوك