نماذج من التوجهات الحديثة في قراءة النص الديني

عبدالله الشحي

يقوم تركي علي ربيعو في مقالته "النص والحقيقة.. قراءة في بعض الاجتهادات العربية الحديثة"، بمناقشة بعض الاتجاهات الحديثة في قراءة النصوص الدينية متمثلة في الدكتور محمد أبو زيد، والدكتور طيب تيزيني، ومنهجهما المادي الجدلي في قرائتهما للتاريخ وبالتالي المقدس، كما يطرح البنيوية كبديل يُمكن فَهْم النصوص من خلاله.

حيث عمل الكاتب على توضيح بعض المشكلات في قراءة النص لدى أبو زيد وتيزيني والطرق المسدودة التي تؤدي إليها تلك القراءة.

تولدت مع التقدم في العلوم الإنسانية توجهات لإعادة قراءة النصوص المقدسة وفق منهجيات حديثة، وبرزت مجموعة من الأسماء في هذا المجال منهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وطيب تيزيني. عمل هؤلاء على قلب جملة من المسلمات؛ بداية بأنسنة النص الديني وإعادة تعريف الوحي وتضييق مساحة المقدس واللامفكَّر فيه.

ويُعتبر عمل هؤلاء جريئا مما قد يُثير ضدهم "شرطة العقائد" على حد تعبير علي حرب؛ حيث قام هؤلاء المفكرون بالدخول في مجالات كانت تعتبر محرَّمة، خاصة بشخصيات معينة احتكرتْ الاشتغال بشرح النصوص الدينية قرونا طويلة.

أولا: الدكتور محمد أبو زيد

يعمل أبو زيد على ربط الدراسات القرآنية بالدراسات الحديثة المعاصرة، ومنجهة وتصفية التراث عن طريق إذكائه بالفهم العلمي منجهة أخرى، أو بمعنى آخر ملاحظة الحركية التاريخية للتراث من خلال المنهج المادي التاريخي القائم على المادية الجدلية القائلة بالحقيقة المادية للعالم لتسير في خط موازٍ للبحث العلمي المادي حول العالم.

عُموما الكاتب يوافق على هذا المشروع من حيث المبدأ؛ نظرا لأنه مشروع سليم، ولكنه يعقب على أن هدف المشروع موجه توجيها سياسيا كنوع من المواجهة مع التيار الراديكالي الإسلامي الذي يختلف مع التوجه الحديث في قراءة النصوص الدينية بوجه عام.

حيثُ إن اختلاف أبو زيد مع الأصوليين في نظرتهم للقرآن يجعله تحت تأثير أيديولوجي يتمثل بضرورة مواجهتهم؛ تلك المواجهة عبارة عن فأس يهوي بها أبو زيد على الجانب الميتافيزيقي في النص المقدس مع نفي مفارقته للواقع وافتراض حقيقة وجوده كنتاج طبيعي للأحداث التاريخية في تلك الفترة.

يُباشر الكات بشرح مفهوم النص لدى أبو زيد؛ حيث إن القرآن نص لغوي ينتج من أحداث الواقع وأنه يمكن أن يفهم من خلال دراسة نصوص أخرى كالشعر؛ فالقرآن عربي والشعر عربي فهما منتجان للغة واحدة، بينما ينفي الكاتب أن القرآن شعر أو سجع كُهان ويذهب للقول بأنه ليس مجرد نص منفعل بالأحداث، بل إن مفهوم النص غير واضح لدى أبو زيد، وهو يتخبط في وضع مفهوم للنص كما حصل لطه حسين وأدونيس كذلك.

يتوجَّه الكاتب نحو توضيح وجهة نظره في القرآن مستندا حسبما يقول على الأبحاث الحديثة في مجال علم الأنسنة؛ حيث يعتبر القرآن أكثر من مجرد نص حيث إن لغة الكتب المقدسة لغة مفارقة تتكون من وحدات تختلف عن وحدات اللغة (العادية). فمن الخطأ دراسة القرآن دراسة لغوية.

ينقل الكاتب كلامه السابق من ستراوس حيث يتبنى الأخير البنيوية فيفصل بين اللغة والكلام، واعتبار اللغة غير متأثرة بالزمان والمكان عكس النظرة السيسولوجية التي تعتبر اللغة متأثرة بالعوامل المختلفة ثقافيًّا واجتماعيًّا؛ وعلى هذا الأساس يتضح الفرق بين القراءتين، فأبو زيد يرى العكس أي تأثر اللغة وتغيرها؛ وبالتالي تأثر ما تم تسطيره بتلك اللغة.

ثانيا: طيب تيزيني

لا يختلف الدكتور طيب تيزني عن أبو زيد؛ فهو أيضا يتبنى الجدلية المادية؛ مما يسبب حساسية للكاتب حسبما أرى. فقد ركَّز على دراسة الفكر العربي الإسلامي والتراث اليهودي-المسيحي، يتناول الكاتب في البداية الجزء المتعلق بالإسلام المحمدي الباكر ثم مفهوم النص القرآني لدى تيزيني.

طيب تيزيني يقول بتفرد عنصر الاقتصاد بالتأثير على التاريخ؛ باعتبار أنَّ "الإسلام الباكر" مثلا هو حركة أيديولوجية للنشاط التجاري في مكة ابتدأ من ورقة بن نوفل وزواج النبي من خديجة ومساعدتها في نشاطها التجاري، وهنا كجدلية السابق واللاحق التي تعمل على تحطيم الجانب الميتافيزيقي للدين؛ حيث النص يتولد نتيجة لما يحصل في الواقع المشاهد لا من كيان متعالٍ بالضرورة، وهذا فيه إخراج للنص من الاعتقاد الديني السائد.

وعلى أية حال يوجد أمثلة قد تخالف القائلين بتفرد عنصر الاقتصاد في تأثيره على التاريخ حسب المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه؛ فالسياسي له نصاب مستقل عن الاقتصادي، والجانب الثقافي أيضا له حضوره في تشكيل التاريخ.

إن صراعا بين تيزيني والأصوليين قد نشأ كما لدى أبو زيد؛ فالنص والقارئ كلاهما فاعل ومنفعل، والحل هو تبني حفريات المعرفة لدى فوكو للتوسع في دراسة النص بشكل معمق لمحاولة إظهار معانيه واختراق طبقاته، على الرغم من أنه يرفض الأخذ بالبنيوية عموما لعدم اكتمالها معرفيا.

تيزيني له وجهة نظر في الحديث النبوي وقضية جمع القرآن والإشارة لاحتمال وقوع التلاعب في تدوين النصوص لأغراض سياسية.

انصب اهتمام الكاتب بمناقشة منهج طيب تيزيني، حيث إن مقارعة الحجة بالحجة معه لا تجدي نفعا على حد تعبيره، بل إن قراءته مستعجلة ولا تقود إلا لطرق مسدودة؛ فطيب تيزيني لا يفرق بين نص كتبه ابن كثير في القرن الثالث الهجري، وبين نص كتبه الطبري في القرن الثامن الهجري.

... إن النظر إلى النص الديني بهذه النظرة يتماشى تماما مع الجدلية المادية، فليس هناك أكثر من تدوين أرضي بشري للأحداث أخذ لاحقا صفة القداسة، لكن التاريخ يمكن قراءته بطريقة مختلفة، وعليه فإن النظرة للمقدس والأسطورة أيضا تختلف. وما قام به أبو زيد وتيزيني هو اجتهاد في نهاية الأمر، قد يخطئ وقد يصيب.. وهذا التوجه الحداثي في دراسة النص المقدس مُستمر في الوجود، بل إنه في توسع دائم.

تعليق عبر الفيس بوك