سيمفونيّة الماء

عائشة البلوشية

منذ عام 2002 وبعد العاصفة المدارية التي ضربت محافظة ظفار حينها، تغيّر مستوى ثقافة الشارع العماني بخارطة الطقس، وأصبح شهرا مايو ويونيو أشهر ترقّب لما تحمله لنا رياح بحر العرب من مواسم مطريّة، ومع تطور الاتصاﻻت، ونشاط سبل الاتصال والتواصل جاءت الأنواء المناخيّة الاستثنائيّة المعروفة بـ "جونو" في عام 2006 لترسخ اهتمامنا بكل غيمة مزن تلوح من جهة الشرق، وأصبحنا نتابع باهتمام بالغ نشرات الطقس، وعرفنا القراءات العددية والمليبار وغيرها من المصطلحات ذات الصلة، والتي كانت تعرف قديما بـ"الغرقة" أو "الجرفة"، ولعلّ ذاكرتي احتفظت بـ"جرفة صفر" لكثرة ما تردد هذا المسمى على مسامعي منذ طفولتي، وهو فيضان هائل ضرب وﻻية عبري في أحد الأعوام، جرف كل ما اعترض طريقه، وحدثت الجرفة في شهر صفر، مما اضطر من بقي من الأهالي للهرب من منازلهم ومزارعهم لواذا، لاجئين إلى رؤوس الجبال للنجاة بأرواحهم، وبحسب الوصف أنّ مجرى الوادي امتلأ من (القيف إلى القيف)...

"أمطار عمان عند إثمارها" هي جملة ترددها جدتي -أطال الله في عمرها- عند هطول الديم في فترات بدء طلع النخيل وزهور الأمبا وانتشار عطور بل النارنج، حيث تختلط تلك الروائح بعبير الثرى الذي اخضل بماء الغيث، وتصل إلى مسامعك أهازيج الأطفال يبتهلون: "يا الله بالسيل سيليه.. حمامة فوق لوميه"، ليتنشي الجو بعبق القيظ السحري، وبغض النظر عن سني القحط الماضية، التي مرت بها أغلب محافظات شمال السلطنة، إﻻ أننا ارتبطنا بموعد الغيث القادم مع كل مزن يعتلي جبال الحجر، ونشنف الآذان علّنا نرصد صوت هدير وادي "الكبير" في العراقي يسابق بعضه بعضًا ليصل إلى أقصى مدى، ففصل الصيف كان وﻻزال فصلا خصيبًا يمتلئ بالماء، في سيمفونيّة ﻻ يسمعها أو يستمتع بها إﻻ العماني الذي ارتبط بحب أرضه، ولا تفارق أذنه ترنيمة القطرات حتى وإن حاولت مكممات الجفاف منعها من الوصول إلى قلبه، ومع التجارب الأخيرة في تسخير العلم لاستمطار الرحمة، عادت هذه السعادة تغلف القلوب، وهي ترى الحياة تعود إلى جنبات الأودية وفي مزارع المحاصيل وعوابي البر بالتدريج، وعاد للقيظ نشاطه ونشوته، ولن ننفك نعشق هذا الخليط العجيب لحرارة القيظ اللاهب وأنشودة وابل المطر وطعم الرطب بأنواعه الكثيرة..

ولكنني هذا العام وجدت نشازًا يؤذي الآذان في هذه السيمفونية، ومما زاد في حيرتي أنّ النشاز جاء في أكثر من كوبليه!! مما بدأ يغير الصورة الخضراء اليانعة لفصل الصيف إلى اللون الأصفر الجاف، والغريب أنّه مع وجود الماء ولله الحمد، نجد ما يقض مضاجعنا ويؤرق أحلامنا، فتارة نرى عطلا في محطة تحلية مياه، وأخرى انفجارات في أنابيب المياه هنا وهناك وفي أكثر من محافظة، فعطش الناس ولجأ (من استطاع إلى ذلك سبيلا) إلى ابتياع صهاريج الماء بأسعار تقرب إلى الخيال في بعض الأحيان، وذلك لعدم كفاية الذي يتم توزيعه مجانا، ولم تستطع أكياس الماء التي توفرت في نقاط التوزيع المختلفة أن تفي بحاجة الشرب والطبخ، فقد اتسعت الرقعة العمرانية مما زاد من الطلب على الماء..

إنّ الهيئة العامة للكهرباء والمياه - والحق يقال- تقوم بالإعلان - قدر استطاعتها- عن القرى والوﻻيات التي سيتم قطع الماء عنها لأغراض الصيانة، وذلك قبل العملية بعدة أيام، ولكن عندما يتعلق الأمر بانفجار خط مياه رئيسي، أو عطل مفاجئ في إحدى محطات التحلية، فإنّ الأمور تكون خارجة عن السيطرة، وهو ما يحدث في هذه الفترة، وهو مؤشر يجب أن نتعلم منه، وأن نستعين به لقادم الأيام، أي أنّه ليس عطلا آنيا ويتم إصلاح العطب وينتهي الأمر، لذلك فإنّه حري بنا أن نستشف الحكمة من كل أمر يعن علينا، ونحن في بلاد يسوسها أعتى حكماء العصر -حفظه الله ورعاه- أي أنّ على الجهات المعنية في الدولة أن تضع السيناريوهات المختلفة، التي تقوم على تدارك المشكلة والاتيان على حل المعضلة في جزء يسير من الوقت حين وقوعها مستقبلا ﻻ قدر الله، والتحضير لها من الآن، وخصوصًا أننا دولة تعاني من مواسم جفاف وشح في كميّات الغيث، ﻷنّه ورغم التكاتف الرائع والجهود المقدرة من قبل الجهات العسكرية، التي تقوم بمد يد العون فور توجيه الطلب إليها، وإسهام المواطنين في مد جيرانهم بالماء، إﻻ أنّ الحالة ستصبح مزرية إذا ما طال أمدها، ولنا في فكر القدماء مثال، فهم لم يتعرفوا على تحلية مياه البحر، ولكنهم اعتمدوا على المياه الجوفية، فسخّروا الجهود لحفر الآبار في كل قرية إلى جانب الفلج، ولم يختلف نظام الري أو مصدر المياه بين السهل والجبل والساحل، وكما أسلفت في مقال سابق، أين هي الأفلاج التي كانت موجودة في أزمان غابرة؟ أين يذهب مخزون تلك الأفلاج؟ نحن ننعم بالسلام والأمن ولله الحمد والمنة، لذلك من الواجب علينا أن نستغل هذه النعم وأن نستغل العقول الكثيرة والفكر المتقد لوضع خطط وإيجاد مصادر موازية لكل المصادر لدينا..

توقيع: "أعيدوا لحر القيظ بهجة الاستبشار بالخصب".

تعليق عبر الفيس بوك