نقد الحال الراهن (14) "السلبية"

د. صالح الفهدي

كلما رأيتُ مسلماً متجهمَ الوجه، مُمتقعَ القسمات، كئيبَ النفس، أقول لنفسي: كيف فهم هذا الإنسان دينه العظيم؟! دينه الذي لم يضاهيه دين في جعله الابتسامة عبادةً يُثاب عليها، وهو ما لم يعهد في أي دين آخر..! "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة"، لكنني أستذكر عبارة قالها الإمام محمد عبده: "كل ما يعاب على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سـمـوه إسلامًا"!

... إنَّ ديناً عظيماً حَوَى علاجات الأمراض السلبية أحرى بأتباعه أن يستطبُّوا بها، وأجدر بأن يكونوا قادة الإيجابية في العالم بأسره، لا أن يكونوا مضرب مثل في نشر الإحباط والسلبية واليأس في أنفس الأمة وشبابها؛ حتى ترى الشاب وهو ضعيف النفس، واهن الجسد، فاقد الطموح والأمل يحسب ذلك من صميم التدين، وهو في الحقيقة مجافٍ للدين الذي جعل "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ونظر إلى الشباب نظرة الطموح والتفاؤل؛ لأنهم قادة التقدم والنهضة.. فكيف يكونون واهنين سلبيين؟!

كيف التصقتْ سمة الجهامة ببعض وجوه المسلمين، فلم يُر فيهم إلا التزمت والعبوس، حتى ندرت منهم الابتسامة، بل راحت عن وجوههم. يمرُّ عليك الواحد منهم فلا يلقي عليك السلام، فتنظر فيه فإذا به وكأن كآبةً قد غشته، ويأساً قد كساه..! أهذا هو الإسلام بسماحته ولينه وبشاشته؟! أهذه هي السنة النبوية التي لم يعهد على صاحبها -عليه أفضل الصلاة والسلام- إلا بسَّاماً، بشوشاً، سَمِح الخاطر، دائم البشر، أطيب الناس نفساً، وألينهم جانباً، يمازح أصحابه؟!

وإذا كانت صورة التجهُّم لبعض المسلمين الذين فهموا دينهم خطئاً قد ارتسمت في أنفسنا، فكيف نلوم غير المسلمين إن هم حسبوا الإسلام نقلاً عن هؤلاء بأنه دين التجهم والسلبية والكآبة، دين يجافي كل مظاهر الجمال، والفن والنظافة؟! نقلوه من أولئك الذين حسبوا أنهم خدموا الدين وقد أضروه إما بالسلبية التي طغت عليهم أو باختزالهم الدين في جوانب شكلية ضيقة، وسمات لا تمُت إليه بصلة..! يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن السلبية لا تخلق بطولة، لأنَّ البطولة عطاء واسع ومعاناة أشد".

هذه مفاهيم خاطئة يصور بها البعض الإسلام، فينشأ عليها جيل لا يفهم من الإسلام إلا ما رآه منهم فقلدهم عليه ظناً أن هذا هو الدين، يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمود حمدي زقزوق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف:" للأسف فإن بعض المتدينين -أو كثيراً منهم- فهموا التدين فهماً خاطئاً؛ فالإسلام لا يعادي الحياة، ولا يحرم المسلم من متعة نافعة ومفيدة من متع الدنيا؛ فالإسلام يحث المسلم على النظافة والتجمل والاستمتاع بكل ما في الكون من أدوات ومظاهر للجمال، ويحث الإسلام المسلم على أن يكون بشوشاً، مرحاً، يبتسم في وجه من يتعامل معهم، فالبشاشة والابتسامة التي ترتسم على الوجه من شأنها أن تفتح الباب إلى التعارف المأمول والتجاوب المنشود وكسب حب الآخرين وقضاء المصالح لكل الأطراف"، وفي النطاق نفسه يحذر الداعية الأزهري د.سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المصرية الأسبق ممن سماهم دعاة اليأس والإحباط الذين ينتشرون في كل مكان من أرجاء عالمنا العربي ويضيقون على المسلمين ما وسعه الله عليهم.. قائلاً: يجب أن نحذر دعاة تخريب العقول الذين يخربون عقول المسلمين بما يقدمونه من آراء وفتاوى متشددة بعيدة كل البعد عن سماحة الإسلام وعدله وشريعته التي تتبنى منهجا لتيسير على الناس في كل شيء، فهؤلاء الأدعياء الدخلاء على الدعوة الإسلامية يرسمون صورة منفرة وكئيبة للإسلام، وهذه نظرة غير صحيحة فالإسلام دين حياة مملوءة بالبهجة كما هي مملوءة بالكفاح، دين يرسم البسمة ويبث روح الأمل والتفاؤل في نفوس الصغار والكبار، دين يشجع على العمل والإنتاج ويدفع المسلم دفعاً لكي يعيش حياته مع زوجته وبين أهله ووسط أصحابه".

... إنَّ السلبية التي تعتور بعض النفوس في مجتمعاتنا لتعود إلى الأفكار التي تغذيها في الأصل؛ إذ إنه بات من المعروف أنه كلما كانت المقدمات صحيحة فإن الاستنتاج يأتي صحيحاً؛ فالمرأة التي كانت تداعب طفلها في سفينة تهزها الأمواج، وتعصف بها الرياح، ويتصايح بها المسافرون كانت تغذيتها الإيمانية صحيحة لذلك كان سلوكها صحيحاً إذ قالت: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..! والإنسان الذي يتق الله لن يصيبه الإحباط، ولا القنوط ولا اليأس أي أنه لن يكون سلبياً أبداً..! فمن أين استقى هؤلاء السلبيون هذه الأفكار العقيمة التي تسببت لهم بالجهامة في الوجوه، والقساوة في القلب، ونبيهم العظيم يقول عليه السلام: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا ًله، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".

شاب كان يمارس الرياضة فأثنيت على مستوى لياقته، فإذا به يقول: من أين وأنا شايب؟! وما أكثر ما أسمع هذه الكلمة من شباب في ريعان أعمارهم، وهو يحطمون أنفسهم بهذه الكلمات العقيمة التي تصيبهم بالعجز والسلبية الدائمة. يقول د.أحمد توفيق حجازي في كتابه "غسيل الدماغ": "عندما تقول أنت على سبيل المثال: لا أستطيع أن أفعل هذا، إنني كبير في السن، أنا لا أستطيع الوفاء بهذا العهد؛ فأنت تقوم بعملية تلقيح أو زرع في عقلك الباطن بهذه الأفكار السلبية، ووفقاً لها سوف يستجيب عقلك الباطن".

ولا يحفلُ الكثير من الكلمات السلبية التي يغذونها عقولهم الباطنية التي تستجيب لهم، فإن حاولت أن تمتدحهم أظهروا لك امتعاضهم، وإن قويت من معنوياتهم أصروا على يأسهم وكآبتهم، وكأن الدنيا قد أقفلت أبوابها أمامهم، وتلك طبيعة العقل المادي الذي لا يجد سوى الانتحار أمامه باباً لا العقل الإيماني الذي يرى الأمل في حسن الظن بالله، والفرج في الإيمان به، والحل في التوكل عليه، والسعادة في القربى منه. هؤلاء مثل الإعرابي الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال له: "لا بأس طهور إن شاء الله"، قال: قلت طهور؟ كلا بل هي حمى تفور أو تثور، على شيخ كبير، تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنعم إذاً".

ما أكثر الباحثين عن المشكلات والشكاوى، ما أكثر المتبرمين، الضجرين، المتذمرين، ما إن يلقونك وأنت تستفتح يومك حتى يغرقونك بالهموم والكآبة والقنوط، فإن استجبت لهم وأصغيت وتجاوبت فقد سمَّموا عقلك، وإن وليت منهم فراراً واستبدلت بصحبتهم أناساً إيجابيين فقد نجوت من سلبيتهم. بعض هؤلاء لا أكاد أسمع له حديثاً غير شاك فيه وباك..! يصدر السلبية إليك وقد فاضت من نفسه، يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه "جدِّد حياتك": "إنَّ الرجل الضعيف قد يفزعه المصاب ويشتت أفكاره وبدلاً من أن يختصر متاعبه بمجابهة الواقع والاستعداد لقبوله يسترسل مع الأحزان التي تضاعف كآبته ولا تغير شيئًا".

... إنَّ داء السلبية هو داء أصله كلمات عقيمة، وأفكار سقيمة، لا يعي البعض أثرها السلبي على عقله الباطن فإذا بحياته تصبح نكداً مستمراً، وقلقاً مستقراً. وإذا به لا يرى إلا النقاط السوداء الدقيقة التي تتخايل أمام ناظره ويعمى عن منظر الطبيعة الرائع الشاسع..! وكمثال على هؤلاء فقد أجرى موقع "إيجابيون" الإلكتروني استبياناً شارك فيه 1029 من الجنسين؛ فقال 59 في المئة إنهم لا يرون أن التفكير أهم من السلوك، وأقر 86 في المئة بأن ليس لديهم علم بأهمية التفكير وأنواعه وتطبيقاته...! هذه النسبة الغالبة تدل على أن الكثرة في مجتمعاتنا لا تعي أثر التفكير الإيجابي أو السلبي على السلوك، ولا تحفل بالكلمة وهي تلقيها إن كان لها أثر على نفسها قبل غيرها.

خلاصة الأمر: أنَّ وجهاً لا يهش ولا يبش، ولا يعرف للابتسامة ملمحاً لا يزعم صاحبه أن ذلك من خلق الإسلام بل هو جناية عليه..! وأن فكراً عقيماً ينتج سلوكاً عقيماً، لا يحسب ذلك على دين سمح، لطيف الأسلوب، رقيق اللغة، فالمنتجات بقدر المعطيات. وإن قلباً يستنير بالله ويتعطر بكلماته الزاكيات، ويوقن بالإجابة وهو يدعوه، ويحسن الظن به، لا تعرف السلبية له منفذاً، ولا اليأس له مدخلاً. إنه الإيمان الواعي وحده القادر على إعادة تغيير الأفكار لتصبح نافعاً وإيجابية، وإعادة تشكيل التجارب والآراء والسلوك.

تعليق عبر الفيس بوك