الشبه كان واحدًا من أوهامنا

رحاب أبو هوشر

في الفيلم الوثائقي "جنوبي الحدود" للمخرج الأمريكي "أوليفر ستون"، المنتج عام 2009، يقوم المخرج برحلة في بلدان أمريكا اللاتينية في زمنها الجديد، كاشفا عن سقوط الهيمنة الأمريكية وخروجها من القارة بعد أن أثمر نضال شعوبها، واستطاعت الإمساك بزمام مصيرها. الفيلم أثار غضب الإدارة السياسية الأمريكية، لأنه يعري تاريخها المعاصر في معاداة الشعوب ونهب ثرواتها، حيث تشكلت بنيته على العلاقة بين دول أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال لقاء المخرج "ستون" وحديثه إلى بعض رؤساء تلك الدول، مثل الراحل "تشافيز" عندما كان رئيسًا لفنزويلا، ورؤساء بوليفيا والبرازيل ورئيسة الأرجنتين في ذلك الوقت. ولا يكتفي المخرج بالمقابلات، بل يأخذنا إلى واقع المنجزات التي حققتها تلك البلدان بفضل سياسات وطنية حرة ومستقلة، في مجالات التعليم والزراعة والصحة وتطوير قطاعات الاقتصاد.

أية شعوب عظيمة هذه؟ نتعرف على شعوب لطالما قلنا أنّها تشبهنا، وتعاطفنا معها دائما بأثر وحدة الحال والتاريخ حتى على مستوى كرة القدم. هل حقا نحن نشبههم؟ الفيلم قدم لنا صورة مجسمة لتلك الشعوب، مزقت الصورة الأرشيفية لدينا، لندرك أن الشبه كان واحدا من أوهامنا أيضا، وليصبح السؤال الأدق، أية شعوب نحن؟!

لن يخرج أي منا بعد مشاهدة الفيلم إلا ممتلئا بالاعجاب بالشعوب اللاتينية، وبالحيرة وغصات الحسرة على شعوبنا. شعوب استهدفت بالإفقار والتجهيل والتنكيل، خضعت طويلا لاستعمارات مريرة، ثم عانت من غطرسة مركز الرأسمال الأمريكي عبر وكلاء تابعين، وها هي تستعيد وجودها وتسيطر على مقدراتها، وتقرر سياساتها الداخلية والخارجية، وتقهر محاولات استعادة النفوذ الأمريكي في بعض الدول، وقياداتها تطالب بحقها في علاقات دولية متكافئة، وتمد يدها بندية لمصافحة تؤسس تاريخا جديدا، ما كان ليتحقق لولا شعوبها الحية.

إذن فإن لنا من العالم حصة الإعجاب، أن نعجب بما يفعل الآخرون، سواء لأجلهم، أو لأجلنا حين يتخذون موقفا إيجابيا من قضايانا. ننسى للحظة فقط ما اعتدنا أن نطلقه عليهم من أوصاف عدائية، لأنهم يربكوننا بحس إنساني لا قبل لنا به، وبانتمائهم لقضية الإنسان: حقوقه وأحلامه وآلامه، في أي مكان وزمان. وننسى كذلك لأنهم يذكروننا بقصور رؤيتنا ودورنا تجاه أنفسنا، أو على الأرجح لأننا أدمنا قيام آخرين بما يتوجب علينا فعله، وراقنا دور الضحية السلبي، في بحثها الدائم عن منقذ، ويثير حماسها أكثر تجاه كونها ضحية إذا كان أجنبي. ضحية لا تسعى للقوة لتنقذ نفسها بنفسها.

كانت الدول اللاتينية أول الدول التي دانت العدوان الأخير على غزة، وأكثر من دعم حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، حتى قلنا إن لنا أشقاء في أمريكا اللاتينية!

راشيل كوري، شهيدة الجدار العازل، شابة أمريكية كانت في الثالثة والعشرين من عمرها عندما استشهدت. لأصدقكم القول فقد أذهلتني، وبقيت أتساءل عن "نوع" الضمير والوعي الإنساني المتين لدى فئة من الآخرين، حتى يذهبوا إلى أقاصي الأرض، إيمانا بقضية ونضالا من أجلها. ما الذي يدفع أمريكية للنضال مع الفلسطينيين، ومجابهة قوات الاحتلال، لتستشهد وهي تعتصم احتجاجًا في وجه مصادرة أراض فلسطينية، تحت عجلات جرافات العدو الإسرائيلي؟

وفي مقابل مثل هذه التضحية الجسيمة، ماذا نقدم لهؤلاء الذين يتبنون قضايانا العادلة. إننا ننساهم ولا نكترث بما قدموا، مثلما اعتدنا على نسيان من قدموا منا أيضا، فنحن أمّة لا نثمن شيئا كما نثمن نعمة النسيان.

ونحن مثل الآخرين، نكتب الكثير عن قضايانا، ولكننا نكتب لأنفسنا، ونحلل ونتبادل الأفكار فيما بيننا. قلة نادرة من يبحثون عن قنوات خارجية لمحاولة توضيحها وشرحها للآخرين، وإيصال صوتنا إلى العالم. وعادة لا يصل صوتنا، وإن وصل فإنه يصل متأخرًا، خافتا مترددًا وغير مكتمل، لا يسمع بين أصوات واضحة وقوية، وتخطط تمامًا لما تريد قوله، وتتقن كيفية قوله.

وعلى الرغم من امتلاك العرب للثروات المالية، ومعظمها مستثمر في الغرب، إلا أنها لا تستثمر لخلق قوة ضغط سياسية مؤثرة لصالح القضايا العربية، بل تخدم الاقتصادات الغربية وهدف زيادة الثروات الشخصية وحسب. ولم تقدم شيئا يذكر لتغيير الصورة النمطية للعربي، الرائجة حتى اليوم في السينما العالمية. وليس لنا إلا أن نحتج، وسيحتج معنا أيضا مالكو الثروات، كلما تم إنتاج فيلم مسيء للعرب والمسلمين، أو آخر يقدم الصهاينة ضحايا لعرب متوحشين. في السينما العربية، تصنع أفلاما تعالج قضايانا من حين لآخر، لكنّها تبقى قليلة، ولا يتسنى عرضها في دول العالم، إلا لجمهور المهرجانات المحدود غالبا. الاستثناء الوحيد الذي دوى عالميا، كان ما قدمه المخرج السوري الراحل "مصطفى العقاد" بفيلميه: الرسالة وعمر المختار.

لقد امتلكت الشعوب اللاتينية وعيًا ينقصنا تجاه ضرورة العمل المنظم مع القضايا، واستقطاب أنظار العالم نحوها، ولم تنتصر في صراعها مع الهيمنة الأمريكية لولا حس جمعي تفتقده ثقافتنا، وجدية وانتماء حقيقي للأوطان، ترجم إلى إيمان عميق بعدالة مطلب التحرر، وصلابة وإصرار على تحقيقه، مما يبدو صعب المنال عند شعوب انفرطت إلى فئات، لتدعي كل فئة أنها الشعب والوطن.

تعليق عبر الفيس بوك