نقد الحال الراهن (10) الخطاب

د. صالح الفهدي

سألت الفتاة الجامعية الضيف الذي يُمثّل المؤسسة المعنيّة بالخطاب الديني: اسمح لي أن أسألك سؤالاً جريئاً وهو: هل تعترفون بفشل خطابكم الديني الموجّه للشباب؟ أجابها: وسأكون أجرأ منك فأجيبك: نعم نعترف..!

الخطابُ ليس مجرّد إلقاء خطبةٍ مكتوبةٍ فحسب بل هو عاملٌ مُهم في توصيل مقاصد الشريعةِ للجمهور، فإن تحلّى بالمقومات التي تقرّبه من فهم طرق التفكيرِ عند الناس، ومعالجة الواقع تقبّله الناس بأريحيّة. وإن ظلّ مكروراً دون تجديدٍ في اللغةِ والتصوّر والاجتهاد اعتراهُ البِلى، وغشاهُ القِدم، فلا يلتفتُ أحدٌ إزاءه، ويوسم بأنه متأخرٌ عن عصره..!

واحدة من إشكاليات الخطاب الإسلامي هي اللغة التي يتخاطبُ بها مع الناس لتتناسب مع عصرهم، واللغة لا يقصدُ بها مجموعة الألفاظ بل المبادئ والمفاهيم التي تكتنفها. في إحدى الندوات التلفزيونية التي أُجريت على هامش ندوة كبرى حول القِيم قلتُ للإعلامي الذي يديرها قبل البدء: أرجوكم أن تسعوا إلى تبسيط الخطاب كي يصل إلى أكبر شريحة ممكنة، لكن لم يتحقق ذلك، وكان مستوى الخطابِ نخبوياً، لا تكاد تستوعبه الفئة المستهدفة من الشباب..!

يطغى على الخطابِ النقلَ دون تجديد، مع أن واقع الناس سريع التغير، وأحوالهم حثيثة التبدّل، إلا أن الخطاب راكدٌ يكتفي بالنقل لا بإعمالِ العقل، واستباطِ الأحكام المتجددة من الروح الأصيلة للإسلام. تمرّ المناسبة تلو المناسبة فتسمعُ ذات المعاني بل ذات الألفاظ تتكرر طوال السنين دون تجديد ودون ربطٍ بواقعِ النّاس. تأتي خطبة الجمعةِ فلا يكادُ المرءُ يسمعُ جديداً يثيره، ولا حديثاً يربطه بواقعه، وقد كان من المستحسن ربطَ الأصولِ بالقضايا المعاصرة للاستئناس بالأحكام، أمّا أن يكون الخطابُ جامداً في توصيف القضايا دون التطرق إلى الشواغل المهمّة للناس فذلك مما يصرفُ نظرهم عن الخطابِ نفسه، لأنه باتَ مستهلكاً لا يأتي بجديد. يقول أحدهم بعد أن خرج من صلاة الجمعة: هذه الخطبة كأنها درسٌ في الصف السادس..!

إن وجود خطاب عقدي لا يحفل بالمحمولات الاجتماعية يعاني من نقيصة في الرسالة، يقول راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية:" وبسبب أهمية العقيدة والتربية في بناء الإسلام فإنّ أثرهما ينبغي أن يمتدّ ليغطّي ليس السلوك الفردي للمسلم وحسب، وإنّما يجب أن يتجاوزه ليلوّن كل مواقفه الاجتماعية والسياسية، وإلاّ وقعنا في ضرب من العلمنة والنفاق وازدواج الشخصية في اتجاه تفريغ الإسلام من مقاصده الكبرى في العدل والشورى والوحدة التي جاء ليرسيها في الأرض".

كما يغلبُ على الخطاب الزجرَ والعقاب والتخويف أكثر من التيسير، والرفق والتبشير، حتى أنه أصبح رمز رعب للنفوس مقترنٍ بالموتِ، والقبرِ والعذاب. وكم أرى الهلع في طفلة في سن الثانية عشرة كلّما سمعت هذا الخطاب تصرخ فزعاً منه وتجري محتمية عنه..! الأناشيد الإسلامية طغت على الكثير منها لازمة الحزن والعبوس وكأنما الإسلام قد أقامَ مأتماً ولم يقعده، وكأنّه ليس به من فرحٍ واستبشارٍ وتفاؤل وهو دينُ القيمِ هذه. الخوفُ من اللهِ قُدّم في الخطاب أكثر من محبّته ومع أنّ الخوفَ من الله واجب إلا أنّه يصدرُ عن المحبّة إن سكنت في قلب العبد.

الإشكالية الأُخرى أن الخطاب الإسلامي أغلبه ماضوي، أيّ مرهونٌ، مقيّدٌ بالماضي في أغلبه، ولا أعني هنا مصادر العقيدة الثابتة، أو السنة القطعية ولكنني أعني التراث الفقهي الذي شاب بعضه ما شابه من اجتهادات غير صائبة أخذ بها البعض فكانت وبالاً عليه وعلى الأمّة في قضايا كثيرة.

والملاحظ أن الخطاب في عمومه خطاب يعطي الأولية للظواهر والجزئيات وهذا الخلط في الأولويات يقدم المعنى المبتسر للشريعة باعتبارها عقوبات وزواجر، وهو ما يفسّره الغنوشي في أمرين : الأول: أن هذا الخطاب يضيق بالحريات الفردية والجماعية ويعمل على تضييقها إلى أبعد الحدود، حتى وضع البعض الإسلام مقابلا ونقيضا للحرّية..! أمّا الثاني: فهو - كما يرى الغنوشي- تركيز الخطاب على الظواهر والجزئيات بدل الكليات والمقاصد، وهو ما جعل المعارك حول قضايا الحجاب والنّقاب واللّحية والأثواب والخمور تحتلّ الصّدارة لدى قطاع واسع من أصحاب المشروع الإسلامي، فيبادرون بمجرّد استلامهم للسلطة في أي قُطْر إلى تجسيد مشروعهم هذا الشّكلاني".

كما أنّ الطبيعة الوعظية المباشرة للخطاب الإسلامي حرمته من تنويع وسائل الدعوة، والاستفادة من أشكال التأثير الجمالي والفني فكان " إنتاج الإسلاميين في كثير من الفنون الجميلة ضعيفا أو ضئيلا مثل الدراما والتصوير والموسيقى والشعر، ربّما بسبب عوائق، حيث ظلّ الخلط قائما بين عدد من الفنون وبين المناخات العلمانية أو الماجنة التي تلبست بها، ما زهدّ الصالحين فيها ونفّرهم منها فاجتهدوا في الصّرف عنها وتشديد النّكير على المشتغلين بها أو المستهلكين لها مفوّتين على الإسلام وصحوته أبوابا واسعة للخير والدّعوة".

يحدد الداعية المستنير الحبيب علي الجفري الذي كثيراً ما ينتقدُ بيت الخطاب الإسلامي لأن كثيراً منه شوّه حقيقة الدين بعد أن خاض فيه غير المتخصصين، فأصدروا الفتاوي، والأحكام دون إدراك وفهم عميق للمقاصد الكلية للعقيدة، وحكمة التشريع، وقالوا عن الدّين ما ليس فيه، فحللوا وحرّموا، فنفروا بدل أن يقربوا، وعسّروا بدل أن ييسروا، يحدد الجفري أربعة معالم للخطاب قائلا: "أعتقد أن من أهم ما ينبغي أن يكون عليه هذا الخطاب أن يكون نابعاً من مشكاة الإسلام الأصيلة القادرة على فهم الواقع وتصويره بشكل صحيح، ثم البلاغ عن الله تعالى، والمعلم الثاني للخطاب الإسلامي أن يكون متصلاً بحاجات الناس الأصيلة لا العارضة، ونحن لدينا مشكلة في الخطاب الإسلامي منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود، في التعامل مع العَرَض لا المرض، والمعلم الثالث أن تكون صيغة هذا الخطاب تؤدي إلى التقاء الناس لا إلى تعميق الفرقة فيما بينهم، والمعلم الرابع أن يكون قائماً على التثبت وهو أن يكون الناطق بالخطاب الإسلامي متثبتاً متيقناً متبيناً للمعلومة التي بنى على أساسها هذا الخطاب، فلا يسمع خبراً في نشرة أو يرى منظراً في وسيلة إعلام فيسارع ويبادر بالقول والفعل قبل أن يتحقق من خلفية ما يتكلم عنه".

لقد نجح الآخر المناوئ للأمة في خطابه لأنّه درس الطرق النفسية ولغة الجسد وغيرها من العوامل المساعدة على نجاح الخطاب في التأثير والإقناع، فالحق لا ينتصرُ إن كان حاملهُ لا يمتلك القدرات التي تؤهله لعرض الحجة والبرهان بل وامتلاكه لطرق العرض التي تفهم ثقافة الآخر فتخاطبه بحسبها مستخدماً اللغة المقنعة. ذات يوم كنتُ أستمعُ لأحد المحاضرين في موضوع العلاقات الزوجية في مجتمعٍ محافظ، ويبدو أنّه لم يُحسن استخدام الخطاب المناسب للفئة الحاضرة، فكان خطابه لهم أشبه بالخطابِ المائعِ الموجّه لمراهقين من مرتادي السينما ومقاهي الوجبات السريعة..! فأثار الجلبة، وأحدث البلبلة ورجوه عدّة مرّات أن يتوقف وهو مستمتع في خطابيته الخارجة عن الضوابط التي تتناسب مع لغة وعادات الفئة المستهدفة حتى تمت مقاطعته قسراً..!

وفي جانبٍ آخر هناك من الوعاظ من يريدُ ركوب موجة العصرِ من الشهرةِ على حسابِ طرح النكات الفجّةِ، والتعقيبات المبتذلة التي ينفرُ منها المجتمع، بينما يمعنُ الواعظُ فيها لأنّها -حسب فهمه ربما- لغةٌ تقربّه من الناس..!

آخرين أحاطوا الخطابِ الإسلامي بأسوار حصينة دون قبول الانفتاح على العصر وتياراته التي لا تخلو من القيم المشتركة بينها وبين الإسلام، حتى ظن الكثيرون أن الإسلام متحجّرٌ، متقوقع على نفسه، لا يتلاقى مع ثقافات البشر، ولا مع اجتهاداتهم الإنسانية التي قد لا تتفق في جوهرها مع الإسلام لكنّها تلتقي في مناطق معينة معه. يقول أحد الذين تابعوا حوارات الحبيب علي الجفري:" .. عثرت على نوع جديد من الخطاب الإسلامى قادر على أن يستوعب القيم الليبرالية والديمقراطية والإبداعية التى كان أهل الغرب أو الليبراليون العرب يظنون أنه لا مجال للتلاقى بينها وبين الإسلام وتشريعاته أبدا".

إنني أركز على هذا الداعية المستنير لأنني أرى فيه نموذجاً مثالياً راقياً لحامل الخطاب الإسلامي القادر على الجاذبية واستيعاب الآخر حتى أعيا متابعيه المتسائلين لأيّ مذهب ينتمي فالرجل في نهاية الأمر يعبّر عن جوهر الإسلام، وأصالته ولا يتحيز إلى مذهب أو طائفة، كما أنّ أغلب إن لم يكن جميع الذين تحاور معه اعترفوا بأنهم لأول مرّة شعروا بالإرتياح لرجل الدين لنجاحه باستمالتهم بتقديم الاعتذار عن تقصير بيت الخطاب الإسلامي وما اعتور الخطاب من عدم بسط المفاهيم السمحة للإسلام ومناطق الاتفاق مع الآخر، وتقديره ومحبته. إنني لأربأ بكل داعيةٍ ناصحٍ نبيهٍ يريد لم شمل الأمّة وإعلاء كلمة الإسلام أن يتحيّز لمذهبٍ أو فئةٍ بل أن يكون محور التقاءٍ، وتوفيقٍ، واعتدال، فما أحوج الأمّة لحاملي الخطاب الإسلامي الموفقين، الجامعين، وما أحوجها إلى خطابٍ إسلامي عصري معتدل، واضحٍ، نيّرٍ، سمحٍ، رفيقٍ، يظهر المقاصد الكلية للإسلام، ويبيّن القيم العظيمة التي يحتويها هذا الدين والتي تتوافق مع مقومات النهضة الإنسانية السليمة في بقاع العالم.

تعليق عبر الفيس بوك