قراءة في كتاب (طبيب في رئاسة الوزراء)

هلال السعيدي

صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر الطبعة العربية الأولى لعام 2014م، مذكرات الدكتور مهاتير محمد الذي شغل منصب رئيس وزراء ماليزيا لفترة امتدت إحدى وعشرين عاما (1981- 2002)، استطاع خلالها نقل ماليزيا من اقتصاد زراعي ريعي إلى دولة صناعية متقدمة.

يلقي رئيس الوزراء الماليزي السابق في مذكراته ومضاتٍ من الضوء على حياته الشخصية وعلى تجربته في الحياة السياسية الماليزية، وطريقته في الحكم والإدارة والتنمية.

يقول الدكتور مهاتير محمد إنه كان ابناً لمعلمٍ سابق يتقاضى راتباً تقاعدياً مقداره 90 رينغت ماليزي شهرياً، بعكس أقرانه السياسيين في المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة الذين كانوا في معظمهم من أسرٍ مرموقة ولهم تجارب سياسية في ولاياتهم. وقد درس الدكتور مهاتير محمد الطب في كلية الملك إدوارد السابع في سنغافورة أثناء فترة الاستعمار البريطاني، حيث التحق بها في العام 1947م، وقد اختلف في هذا أيضاً عن رؤساء الوزراء الماليزيين الذين سبقوه حيث كانوا محامين مرموقين تدربوا في لندن.

أما عن تجربته في الحياة السياسية الماليزية فيقول بأنّه كان عضواً متمرداً في المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة، حيث انتقد رئيس الوزراء الماليزي السابق تونكو عبد الرحمن علناً، الأمر الذي أدى إلى طرده من المنظمة في العام 1969م، إلا أنّه أُعيد قبوله فيها مجدداً في العام 1972م بوساطة من تون عبد الرزّاق رئيس وزراء ماليزيا السابق. بعد عودته للحياة السياسية مجدداً وحصوله على مقعد برلماني في الجمعية الوطنية الملاوية تم ترشيحه لمنصب وزير التربية والتعليم وشغل المنصب رسمياً في العام 1974م، ثم عُين مساعداً لرئيس الوزراء الماليزي تون حسين وشغل في الوقت ذاته منصب وزير التجارة الدولية والصناعة. وفي العام 1981م تولى الدكتور مهاتير محمد منصب رئيس الوزراء الماليزي عقب مرض تون حسين وتنحيه عن رئاسة الوزراء.

خصص الدكتور مهاتير محمد الفصلين الثالث والرابع من مذكراته للحديث عن الملاويين (السكان الأصليين لماليزيا) ومشكلتهم الوجودية المتمثلة في عدم حصولهم على نصيب عادل من الثروة الوطنية لبلادهم وعدم إجادتهم لكثيرٍ من الأعمال التي برعت فيها الأعراق الأخرى التي تشكل مملكة ماليزيا الحالية، ويخص بالذكر الأعمال التجارية التي يتقنها الصينيون والهنود. ويرجع الدكتور مهاتير محمد أسباب ذلك إلى عاملين رئيسيين أولهما الاستعمار البريطاني لماليزيا وسنغافورة وتقسيمهم المجحف للعمل بين الأعراق الثلاثة التي استجلب بعضها من الصين والهند، حيث سهلوا سيطرة الصينيين على الأعمال التجارية التي كانت تجري في شبه جزيرة ملايا، كما وظفوا الهنود كعمال في المناجم والمصانع التي أقاموها، فيما انزوى الملاويون في الداخل يزرعون الأرز ويقتاتون على ما تقدمه الطبيعة ويعتمدون على التجار الصينيين. أما العامل الآخر فيرجعه الدكتور مهاتير إلى الطبيعة الذاتية للملاويين حيث يذكر أن "الملاويين عندما كانوا يزاولون عملاً مهنياً ما فإنه يطغى شحهم على الحكمة وعلى الممارسات الجيدة، وكانوا يزاولون أعمالاً لا خبرة لهم فيها ويفشل عددٌ منهم في بذل الجهد الكافي. كما كانوا يقترضون دون تقييم جدارتهم بالتسليف ويريدون العيش على آمال لا أساس لها عوضاً عن الاعتماد على حسابات واقعية دقيقة وعلى الانضباط الذاتي حتى إنّ بعضهم استعمل مال شركته دون وجهٍ قانوني، ولقد كانوا يبددون جزءًا من المال الذي يقترضونه على الاستعمال الكمالي الشخصي" .

إزاء هذا الوضع، عمل الدكتور مهاتير محمد منذ توليه سدة رئاسة الوزراء على محاولة ردم الهوة في توزيع الثروات بين الأعراق في بلاده، ولأجل إنجاح ذلك اعتمد على ركيزتين أساسيتين الأولى هي التعليم حيث ساعد ذلك على رفع الثقافة العامة لدى الملاويين وبالتالي انخراطهم في مختلف مؤسسات الدولة الماليزية، ولم يقتصر الاهتمام على التعليم العام والجامعي فقط وإنما تم الاهتمام بالتعليم العالي أيضاً حيث مُنح الملاويون الذين يرغبون في إكمال دراستهم العليا مِنحاً تفضيلية. أما الركيزة الثانية فكانت إشراك الملاويين في الفرص الاقتصادية التي يقدمها بلدهم وقد عُرف ذلك وقتها بمسمى السياسة الاقتصادية الجديدة حيث تم منح الملاويين العقود الحكومية لتنفيذ المشاريع المختلفة وكذلك منحهم رخص استيراد السيارات ودعمهم بالقروض الميسرة لإنشاء مشاريعهم الخاصة. لقد كان الهدف من هذه السياسات رفع نسبة حصة الملاويين في الثروة الوطنية إلى 30 بالمائة، ورغم أن الدكتور مهاتير محمد يعترف أن هذه النسبة لم يتم الوصول إليها بالكامل وبالشكل المطلوب إلا أن الوضع الاقتصادي للملاويين وللأعراق الأخرى قد تحسن بشكلٍ كبير، ويعزو سبب عدم فعالية السياسة الاقتصادية الجديدة في بعض جوانبها إلى الطبيعة الذاتية للملاويين، ذلك أن رغبتهم في الكسب السريع جعلتهم يقومون بإبرام عقود من الباطن مع مواطنيهم من الأعراق الأخرى في مقابل حصولهم على الفرق المالي بين العقد الحكومي والعقد الذي أبرموه من الباطن مع غيرهم، كما لجؤوا في حالاتٍ أخرى إلى بيع تراخيص استيراد السيارات التي منحت لهم وكان أغلب مشتريها من الصينيين الماليزيين.

ويستعرض الدكتور مهاتير محمد في أجزاء أخرى من مذكراته خصوصاً الفصلين الثامن والعشرون والتاسع والعشرون الخطوات التي اتخذها لنقل بلاده خلال السنوات التي قضاها في منصب رئيس الوزراء من بلدٍ زراعي إلى بلدٍ صناعي متقدم، وركّز في سبيل تحقيق ذلك على أمرين هما: الحصول على المعرفة التقنية اللازمة، وتبنى من أجل ذلك سياسة "النظر شرقاً" حيث لجأ إلى اليابان وكوريا الجنوبية بشكلٍ أساسي متخذاً في ذلك مقاربة قائمة على معرفة العناصر التي ساعدت على نجاح هذين البلدين في المجال الصناعي، والمراحل التي مرا بها لتحقيق ذلك. ويقول الدكتور مهاتير محمد عن ذلك "إن أخلاق العمل أهم هذه العناصر، وهي أخلاقٌ قائمة على الاجتهاد الدؤوب، والافتخار بالمنتجات، وبالروح الوطنية". وهو يذكر أن اليابانيين تميزوا مثلاً بالشمولية والاعتناء بأدق التفاصيل والجنوح نحو الكمال، فهم في مسيرتهم الصناعية قاموا بنسخ التكنولوجيا أولاً، ثم عدّلوها وطورها بما يناسب احتياجاتهم، ثم في نهاية المطاف طوروا تكنولوجيا خاصةً بهم. أما الركيزة الثانية للتقدم الصناعي في ماليزيا فكان الاعتماد على الصناعات الثقيلة حيث تم انشاء مصنع للفولاذ وآخر للسيارات وثالث لقطع غيار الطائرات ومن ثم تتابع بعدها نمو المصانع المختلفة.

أما المقاربة الاقتصادية التي اعتمدها الدكتور مهاتير محمد في سبيل تحريك اقتصاد بلاده ومده بالاستثمارات المختلفة فيقول أنها تمت باتخاذ خطوات عملية لإزالة العراقيل الإدارية للتغلب على البيروقراطية في الجهاز الحكومي، وكذلك العمل على جذب الاستثمارات الخارجية حيث كان يوفد وزير التجارة والصناعة الدولية شخصياً إلى الشركات الكبرى في مختلف دول العالم بهدف التعريف بماليزيا وعرض الفرص الاستثمارية المتوافرة بها. كما تطرق الدكتور مهاتير محمد لبعض المشاريع الكبرى التي نفذت في عهده وأدت إلى وضع الاقتصاد الماليزي على الخريطة العالمية كإنشاء برجا بتروناس والعاصمة الإدارية الجديدة بوتراجايا، ومشاريع الطرق السريعة والقطارات.

تعليق عبر الفيس بوك